ثلاثة امتحانات واجهتنا خلال الأسبوعين المنصرفين، الإجابات التي وصلتنا عليها، سواء من المسؤولين الذين تصدروا المشهد، أو من أغلبية المجتمع التي انشغلت بالموضوع، كانت مؤسفة، اذ اختلط فيها السياسي بالقانوني، والدفاع عن الذات بانتقاص الآخرين، والتمترس حول الصواب بالتغطية على الخطأ، وبالتالي ضاعت “الطاسة”، وتدنت لغة الخطاب، ثم خرج الجميع خاسرين، لم ينجح منهم أحد.
إذا سألتني عن “السر” وراء هذه الخسارة، سأجيبك بكلمة واحدة، وهي أننا افتقدنا “الحكمة”، خذ مثلا الامتحان الأول، القضية التي رفعها رئيس الوزراء على أحد الأشخاص “يعمل بائع قهوة”، بعيدا عن التفاصيل التي لا أعرفها تماما، ولم يشر إليها البيان الذي أصدره المركز الوطني لحقوق الإنسان، المهم أن ما حدث كان يمكن للرئيس أن يستثمره بالحكمة في سياق آخر، وأن يسجله في خانة المواقف الوطنية، بما تحتمله من قيم السماحة والعفو، ثم الترفع عن اللغو والإساءة مهما كان مصدرهما. أعرف، بالطبع، أننا بشر، نصيب ونخطئ، ونتصرف، مهما كانت مواقعنا، على هذا الأساس، لكن استدعاء ” الحكمة” من قبل الشخصيات العامة يصبح واجبا إذا ما تعلق الأمر بالاحتكام لمنطق الدولة والسياسة، لا منطق الحق الشخصي والقانوني، مثلما أن استدعاء الحكمة واجب أيضا على النخب التي خاضت في المسألة، وبدل أن تنصح وتدفع للتوافق على كلمة سواء للخروج من اللغط، ألقت بعيدان الكبريت في الحقل، فأشعلته حتى امتدت الحرائق إلي أثوابنا، وأذواقنا أيضا. خذ مثلا آخر، امتحان” الغذاء الملوث”، كان يفترض أن نتعامل معه بالحكمة أيضا، بدل أن ننفخ فيه بالاستقواء القانوني المتعسف تارة، والهجوم الإعلامي تارة أخرى، البحوث العلمية موجودة، ومن أعدها وأشهرها ما يزال بيننا، ويمكن أن تكون نتائجها صحيحة او غير دقيقة، هذا كله يخضع للنقاش العلمي، وأصحابه الخبراء من أهل الصنعة، فلماذا اخترنا شيطنة الشاهدة، واتجهنا نحو التشكيك والانكار والتهديد، ووضعنا الرأي العام أمام صراع عبثي صب في مربع توسيع فجوة الثقة بين الناس ومؤسساتهم، كما بعث برسائل مفخخة معاكسة تماما لرسائل التحديث وتشجيع البحوث العلمية التي تبعثها الدولة؟ هذا الامتحان رسبنا فيه للأسف.
خذ، مثلا ثالثا، قضية العاملة في أحد المصانع (حمدة رحمها الله)، التصريحات التي خرجت من رئيس قسم الطب الشرعي لم تكن دقيقة، فقد رد عليها محامي العاملة بالوثائق، كان يمكن أن نستدعي ” الحكمة” أيضا، ونتعامل مع القضية بمنطق المكاشفة، استنادا لقيمنا العلمية والاجتماعية التي نعرفها، ليس فقط لجبر خاطر أهل الفقيدة ومواساتهم في محنتهم، وانما لتطمين المجتمع الذي تعاطف مع هذه الحالة الإنسانية على أن موازين العدالة هي الفيصل، بدل التشويش على القضية ووضعها في سياق مثير للشك.
لدي قناعة، أرجو ان تكون في مكانها الصحيح، وهي أن رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، الذي أعرفه وأحترمه، لن يضيع فرصة الانتصار “للحكمة” في قضية المواطن الأردني البسيط الذي أخطأ، كما أن الحكومة لن تضيع أيضا فرص الخروج بنجاح من الامتحانين الآخرين (الدكتورة قموه والمرحومة حمدة)، أقول ذلك استنادا إلى مسألتين، الأولى أن هذه الفرص ستصب في حساب الرئيس إنسانيا وسياسيا، وستلجم محاولات التصيد والهجوم التي استهدفته بشكل غير لائق، وهي – في تقديري – محاولات مقصودة، وربما مبرمجة. أما المسألة الثانية، فهي أن المزاج الشعبي العام الذي ما يزال غارقا في السوداوية، يحتاج أكثر من أي وقت مضى، لرسائل إيجابية من الحكومة، ولا أعتقد أن الحكومة ستهدر مثل هذه الفرص، أو انها ستفوت تعويض ما لحق بصورتها من خسارات، حتى لو قال البعض إنها تأخرت في ذلك، فالمهم هو النتيجة.