يترجم قرار محكمة التمييز في الأردن، الصادر قبل أيام، مستوى الأزمة المتدحرجة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين الأمّ. إذ تشير حيثيات القرار إلى السياسة الحكومية التي تصرّ على اعتبار الجماعة غير قانونية، بخلاف قراراتٍ أخرى صدرت عن محكمة الاستئناف، قضت بإعادة أموال الجماعة المنقولة وغير المنقولة إليها، فيما ينقض ذلك حكم "التمييز" أخيرا.
ما تزال الجماعة تصرّ على السير في مجال القضاء للحفاظ على وجودها القانوني. في المقابل، تصرّ الحكومة على البدء بفصل جديد تعيد من خلاله هيكلة الأوضاع القانونية والسياسية للجماعة، عبر معادلة جديدة، ضمن ما تراه "الدولة" من متغيراتٍ إقليميةٍ وداخلية، وكأنّنا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمة المستعصية بين الطرفين، من دون لجوئهما إلى الحوار لبناء إطار جديدة للعلاقة، بعدما تداعت القواعد السياسية التي حملتها في عقود سابقة.
لم تعان "الجماعة" فقط من أزمتها مع الدولة، إذ واجهت، خلال ثلاثة عقود، أزمة داخلية متدحرجة، انبثقت عنها عمليات انشقاق واسعة، أدّت إلى ولادة أحزاب جديدة، بداية من الوسط، مروراً بزمزم، فالشراكة والإنقاذ، ثم الانقلاب على الجماعة من قيادات تاريخية أسست جمعية جديدة أخذت الصفة القانونية باسم جماعة الإخوان المسلمين.
صحيح أنّ القاعدة الشعبية الأكبر ما تزال وراء الجماعة الأمّ، إلاّ أنّ الأزمة الداخلية والحصار الرسمي أضعفا من قوة الجماعة سياسياً، فضلاً عن حالة التردّد تجاه تبنّي مفاهيم وأفكار جديدة، والقيام بمراجعاتٍ جوهرية للاستفادة من التجربتين، المغربية والتونسية، اللتين تمكّنتا (مرحلياً) من تجنب السيناريو المصري.
الخبر الجيّد أنّ "الدولة"، على الرغم من حالة الغضب الشديد من توجه الجماعة السياسي في أثناء حقبة الربيع العربي، لم تذهب نحو خيار تجريمها، أو اعتبارها جماعةً إرهابية، كما حدث في الدول العربية الحليفة للأردن. ذلك يفتح الباب إلى إمكانية الاتفاق والحوار على قواعد جديدة باتت ضرورية بين الطرفين، خصوصا أنّ الجماعة ما تزال تملك حزب جبهة العمل الإسلامي الذي يمثّل الطرف الأقوى والأكبر في المعارضة السياسية في البلاد.
السؤال الكبير: هل يمكن أن تخرج الجماعة من هذه الأزمات المركّبة، وتبدأ فصلاً جديداً في العلاقة مع الدولة، ما هو المطلوب لتحقيق ذلك؟ من الضروري التنبيه أنني لا أناقش، هنا، فيما إذا كانت الجماعة على حقّ أم لا؟ إنّما ما هو المطلوب، واقعياً وبراغماتياً، بلغة السياسة، أو كيف تتعامل مع تفكير "النظام" بشأن العلاقة معها؟
في أروقة الجماعة اليوم أكثر من سيناريو؛ الخيار الأرجح أنّها ستستمر في "العملية القضائية"، لكن المهم في قرار المحكمة أنّه يكشف أنّ الفكر المهيمن على دوائر القرار يتمثّل في عدم العودة إلى القواعد السابقة. أحد السيناريوهات المطروحة، إخوانياً، الانتقال بصورة كاملة إلى حزب جبهة العمل الإسلامي، على غرار الحالة التونسية وبدرجة شبيهة المغربية، فيصبح الوجود الإخواني متموضعاً في الحزب، وهو خيارٌ واقعيٌّ ومنطقي، لكنّه يتطلب مراجعاتٍ عميقة للمعادلات الداخلية والإقليمية لتقديم خطاب جديد، وتضمن الفصل ما بين العملين، الدعوي والسياسي.
يمكن تأسيس جمعياتٍ تتولى العمل الدعوي والمجتمعي والثقافي، والانتقال بالعمل السياسي نحو الإطار الحزبي السياسي الاحترافي بالكلية، وتجديد الدماء في عروق الخطاب السياسي للحزب، من خلال تصعيد قيادات شبابية ونسوية وبناء إطار للحوار مع التيارات التي خرجت من رحم الجماعة، والأحزاب السياسية الأخرى. ولكن على قاعدة القواسم الوطنية المشتركة، والعمل على فتح قنواتٍ من الحوار مع الدولة لتأسيس قواعد جديدة للعلاقة.
للأمانة، حالة الاستعصاء السياسي لا تمسّ فقط علاقة الدولة بالجماعة، بل مع مختلف الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى. وقد يكون رهان الجماعة هو الإفادة من الأزمة السياسية العامة، والظروف الاقتصادية.
قد تؤدّي أزمة المعلمين، خلال الفترة المقبلة، إلى تعزيز وتجذير حالة عدم الثقة بين الدولة والجماعة. وفي حال وصلت الأمور إلى توتر داخلي كبير، فذلك ليس من مصلحة أحد. وإذا كان بالإمكان، لاحقاً، أن نجد توجهاَ داخل الدولة يعيد النظر في الاستراتيجية الصارمة من الجماعة، فمن الأفضل أن تكون الجماعة قد قامت بتجديد نفسها، وتقديم وصفةٍ مقنعةٍ لإزالة حالة التوتر الراهنة، وقطع الطريق على من يرغبون بجرّ الدولة والجماعة إلى صدام أكبر.