الشهادة التي قدمها أحد الأطباء المعروفين (د. محمد كريم الشوبكي) وروى فيها قصة الطبيب الذي سقط “بمنطاد” المحسوبية والواسطات على قلوب المرضى ومعاناتهم ، دون أن يمتلك أدنى شروط التأهيل، يفترض (بل يجب) أن تفتح عيوننا على ملف “الفساد” في مجال الصحة والطبابة.
أعرف أن هذا الملف الخطير (وربما غيره من ملفات الفساد الإداري) محاط “بأسيجة” معقدة ومتشابكة، وأن الدخول إليه يحتاج إلى إرادة سياسية وعزيمة إدارية، كما يحتاج إلى كثير من الحكمة حتى لا تنعكس “الجراحات” فيه على سمعة بلدنا في مجال الصحة، لكن مع ذلك كله، تبقى صحة الأردنيين وسلامتهم أهم، كما أن تنظيف هذا القطاع من الأخطاء والخطايا سيساهم، بلا شك، في تقديم أفضل صورة لنا لدى القادمين من الخارج للاستشفاء في مرافقنا الطبية. يمكن لمن لم يسمع بتفاصيل القصة أن يعود إلى مصدرها (وهو موجود)، لكن ما يهمني هنا الإشارة إلى عدة ملاحظات، الأولى أن ما حدث ( وإن كان مضى عليه 11 عاما)، يشكل حالة فساد اختلط فيها الطبي بالإداري، وهي لا تتعلق بشخص استطاع، من خلال شبكة علاقات تربطه بطبقات من المسؤولين، أن يكسر الحواجز القانونية والأنظمة، ويحصل على ما أراده بلا وجه حق، وإنما تتجاوزه، ربما، إلى حالات أخرى ما زال مسكوتا عنها، وبالتالي فإن ما فعله هذا “الشخص” يمكن أن يتكرر، أو أنه تكرر فعلا، ما دام أن أبواب المحسوبية ما تزال مفتوحة.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن الخطأ الذي ارتكبه “الطبيب” المقصود بالقصة مرفوض ويستوجب المحاسبة ولا يسقط بالتقادم، إلا أن الأفدح والأخطر منه، هو ما ارتكبته “المؤسسات” التي تدخلت للتغطية على هذا الخطأ، سواءً بالتزوير أو بالتمرير، أو بالدعم والتشجيع، أو حتى بالصمت، ذلك أن ما حصل – إن صح – هو بمثابة منح رخصة “قتل”.
الملاحظة الثالثة: حالات الفساد على المستوى “الفردي” تبقى مفهومة ومتوقعة، وتحدث في كل دول العالم، لكن غير المفهوم هو فساد المؤسسات، وأقصد من يتولون طبقة المسؤولية فيها، واللافت فيما حصل بهذه القضية أن شبكة الفساد توزعت بين أطراف متعددة، وكان يفترض أن يتدخل بعضها لوقف هذه التجاوزات، لا أن يكون الحل إنهاء عمل اللجنة العلمية التي امتنع أعضاؤها عن قبول جريمة التزوير حين اكتشفوها. الملاحظة الرابعة: تسريب القضية (الكارثة: أدق) التي حصلت قبل أكثر من عقد جاء متزامنا مع سلسلة من الأخطاء الطبية التي راح ضحيتها أكثر من مريض، ومع دعواتٍ متكررة لفتح ملف الطبابة، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، وإذا كان النقاش حول “الأخطاء الطبية” تحديدا تطرق إلى أسباب عديدة، إلا أن فرضية وجود أطباء غير مؤهلين أو مدربين، أو ربما حصلوا على شهادات بطرق غير مشروعة، غابت عن النقاش، حتى جاءت هذه القضية فذكرتنا بها، وأعتقد أنها (الفرضية) في غاية الأهمية والخطورة. الملاحظة الخامسة: ما حدث لا يقتصر فقط على شبهة “تزوير” متورط فيها أشخاص متنفذون، وإنما أيضا على تداعياتها ونتائجها، فلا أحد يعرف فيما إذا كان “الطبيب” المقصود ما زال حتى الآن عاملاً في المهنة، ناهيك عن الطرق التي سلكها للوصول إلى رخصة المهنة، كما يتوقع من “عدم أهليته” أن يكون أخطأ في علاج مراجعيه، وربما تسبب في وفاة بعضهم. وكل هذا ما زال مجهولا.
تبقى الملاحظة الأخيرة، وهي أننا نفترض أن القضية حقيقية، وشهودها موجودون، والمتهمون فيها ربما ما زالوا على قيد الحياة، ثم إن المسألة تتعلق “بالحق العام” وعدم كشفها بتفاصيلها، إثباتا أو نفيا، سيضع الجميع في دائرة الشكوك وعدم الثقة والخوف، وبالتالي فإنني- بالنيابة عن المجتمع- أضع هذا الملف أمام النائب العام بانتظار أن يتحرك لفتحه والتحقيق فيه، وفك ألغازه، ثم وضعه أمام موازين العدالة لتفصل فيه، عندها نطمئن جميعا أن طبابتنا بخير، وبلدنا بخير أيضا.