ابتعد عبدالكريم الكباريتي رئيس الوزراء الأسبق، عن الحياة السياسية، منذ أكثر من عشرين سنة، ونادرا ما يظهر في مناسبة عامة، او يصرح تصريحا سياسيا، وباستثناء مرات محدودة تحدث فيها عبر لغته المشفرة الشهيرة، اختار أن ينشغل في القطاع الخاص، نائيا بنفسه عن كل شيء.
آخر كلام الرجل، حساس وخطير، حين قال قبل أيام أن من حق جيله أن يقلق، مبررا ذلك بأنه..” لا يقصد الجزع اللاعقلاني، لسنا بصدد إطلاق صيحات الويل والثبور، فجيلنا لا يخشى التغيير ولا يفزع من وتيرته وتجديد شبابه، ولكن من حقه أن يقلق قلقا مولعا بحب الوطن، اي الوطن القادر على الامساك بالمستقبل، الوطن النصير للمشاركة والتنوع المتناسق الموحد، الرافض للتعصب وصعود العنف واليأس، الوطن الذي لا يقبل التسليم بدخول المئوية الثانية على مركب نحن على متنه هائم على وجهه بلا طريق ولا مقصد ولا رؤية او بوصلة”.
من المثير حقا، ان ينتقد البعض الكلام، والتذكير بكونه أول من رفع سعر الخبز، مع دفع التعويضات المالية منتصف التسعينيات، تلك المرحلة المسماة بمرحلة الدفع قبل الرفع، والكل يعرف ان ذلك التوجه لم يكن توجها شخصيا له، بل كان مفروضا من مؤسسات دولية، واذا كان هذا هو المأخذ الوحيد على تلك المرحلة، الا انه يمكن بكل صراحة اعتبارها مرحلة مزدهرة اقتصاديا، مقارنة بما حدث خلال السنين التالية، فقد كنا في احسن احوالنا الاقتصادية. حكومته يومها، غادرت ليست على خلفية غضب شعبي كما يتوقع البعض، بل على خلفية تسويات سياسية، لمرحلة كانت مقررة، لاحقا، وتم التراجع عنها من مركز القرار في عمان، ودفعت الحكومة كلفة التخلي عن توجهات معينة كانت مقرة فترتها، وكان وجود الحكومة برمتها، مع تغييرات في مؤسسات ثانية، توطئة للتغييرات التي لم تتم، ولم تكتمل لاعتبارات ليس هنا محل اشهارها، فكان حرق المرحلة تحت عناوين بديلة، مدخلا للتخلي عن توجهات مستترة لم تتحول الى واقع. بعد رحيل حكومته منتصف التسعينيات، ابتعد الرجل عن الحياة السياسية، حتى عاد لعدة شهور رئيسا للديوان الملكي العام 1999، ثم غادر الى القطاع الخاص، نائيا بنفسه عن كل شيء.
هذه المرة لم تختلف لغته من حيث الجوهر، عما سبق، بل كانت محملة بصراحة كبيرة، لا يجرؤ احد من السياسيين عليها، خصوصا حين يقول “الوطن الذي لا يقبل التسليم بدخول المئوية الثانية على مركب نحن على متنه هائم على وجهه بلا طريق ولا مقصد ولا رؤية او بوصلة”، والكلام هنا يوجب الاهتمام، بدلا من هجوم البعض، خصوصا، ان الكباريتي ليس شريكا في كل المراحل السابقة، وكما ذكرت فقد جاءت حكومته وغادرت منتصف التسعينيات، فلماذا يتم تحميله من جانب البعض، وزر بقية المراحل اللاحقة، وهي المراحل التي شهدت تدهورا على كل الاصعدة، وخصوصا، الصعيد الاقتصادي، حيث اصبحت حياة الناس، مرهقة جدا، ولا تستثني احدا.
حين يقول اننا على متن مركب هائم على وجهه، بلا طريق ولا مقصد ولا رؤية ولا بوصلة، فهو يؤشر على مخاطر الوضع الحالي، والنتائج المقبلة على الطريق، لأن ما نراه حاليا من واقع خطير، حيث غياب الرؤية والخطط والاستراتيجيات، حيث تدار الامور بشكل يومي، ولا يتلفت احد الى الكلف الحاصلة، ولا النتائج المحتملة، ومن الطبيعي جدا، ان اي مركب هائم على وجهه، قد يصل الى المخاضات النهرية الطينية، او الى الحافة، وغير ذلك من احتمالات.
بدلا من قصف كلام الرجل، من جانب البعض، كان الاصل الوقوف عند المضمون، فهو ليس صاحب مصلحة، ولا يبحث عن كرسي هنا او هناك، خصوصا، ان من يعرفه عن قرب يدرك انه عقل استراتيجي، كان الاولى الاستثمار فيه، وعدم تركه لسياسة النأي بنفسه عن كل شيء، وهي سياسة ضمن سياسات عامة أدت الى توليد كل ضعيف لمن هو اضعف منه، واستبدال كل من لديه خبرة، بمن يطيع فقط، فالامتثال الحرفي أهم بكثير من التأثير، والتغيير الايجابي. من المتوقع هنا أن يتم التحريض على الرجل، بسبب كلامه، وبدلا من الوقوف عند مغزى الرسائل، سيأتي من يحرض عليه في الغرف المعتمة، حيث هذه لعبتنا التافهة المتبقية بأيدينا.