لسنا بلدا قويا اقتصاديا؛ بل إننا نغرق في مديونية صعبة، وتنعكس آثارها بتسارع على مختلف مفاصل وقطاعات نظامنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والصحي.. وحتى استقرارنا النفسي، وأمننا، ومستقبلنا.. ولعل البطالة هي الأحجية الكبيرة التي تحتاج لحل سياسي قبل الاقتصادي والاجتماعي.
المهندس ممدوح العبادي، الوزير السابق لعدة مرات، ونائب رئيس الوزراء لحكومة سابقة أو ربما لأكثر من حكومة، والنائب الأسبق في عدة مجالس نيابية، وأمين عمان في سنوات سابقة، و... الخ، فالرجل باختصار، تنقل في مواقع قيادية كثيرة وكبيرة، ولديه أفق أوسع من كثيرين في مجال الخدمة العامة، وهو أحد بيوت الخبرة والحكماء، الذين ما زالوا ينبضون بالوفاء لهذه الدولة وشعبها وقيادتها .. في محاضرة له نظمتها جمعية الشفافية الأردنية، عبر عن قناعته "بشفافية"، إعتدنا سماعها وملاحظتها في كثير من عمله وحديثه، فطالب بموقف أردني سياسي من موضوع البطالة وأرقامها، ومن فسح المجال للشباب الأردني للحصول على الوظائف والأعمال والمهن التي تذهب للاجئين وغيرهم، ولو باللجوء لفرض الأحكام العرفية..
وفي سياق آخر؛ قرأت مقالة للأستاذ الزميل محمد حسن التل، يتحدث فيها عن طلبة أردنيين، تخرجوا من جامعاتهم، فأصبحوا من بين المطلوبين لدائرة تحصيل الأموال العامة، دونما سابق علم أو معرفة بانشغال ذمتهم للدولة، وهم بذلك تعرضوا للخداع، بسبب وجود شرط ما في عقود أو اتفاقيات المنح الدراسية، التي وقع عليها هؤلاء الطلبة، دون أن يتم تبليغهم أو لفت انتباههم الى وجود شرط ما في هذه المنح، وهو أن يبادروا للتقديم لديوان الخدمة المدنية، حال تخرجهم من الجامعة، علما أن هذه المنح، كنا قد كتبنا عنها في عدة مناسبات، باعتبارها منحا تشجيعية للطلبة من أبناء الشمال والوسط، للدراسة في جامعات الجنوب، التي تعاني من عدم اقبال الطلبة على الدراسة فيها، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، حيث الدراسة الخاصة في مناطق إقامتهم، أوفر بكثير من الدراسة بجامعات حكومية في الجنوب، فكانت هذه المنح الدراسية طريقة لجذب الطلبة للدراسة في تلك الجامعات، وفوجئ خريجون كثيرون درسوا في جامعات الجنوب، وتخرجوا، فإذا بهم مطالبون بذمم مالية من قبل دائرة الأموال العامة، وسفرهم ممنوع، وربما مطلوبون شخصيا للقضاء والمحاكم.. ويقولون : لقد تعرضنا للخديعة.
قد تكون "رومنسية" حسب المهندس العبادي، وخديعة حسب الزميل التل، في بعض الأدمغة، التي تكون في مواقع المسؤولية، ولا تلتفت إلى احتمال اختلاف التفسيرات والممارسات حين يتم تنفيذ قرارات يتخذونها، ويعتبرونها فتحا وطنيا إداريا سياسيا اجتماعيا واقتصاديا.. الأمثلة أصبحت يومية وكثيرة، عن الموظف اليوم؛ الذي يتكهرب، و"ينعجق" حرفيا، أمام المال العام وكتبه ومعاملاته، ويتصرف حسب فهمه "السطحي" للتعليمات، ليحفظ نفسه على طريق السلامة، وبعيدا عن المساءلة، ولا يكترث لأمر الناس والمؤسسات وكل الدولة، حين ينفذ القانون والتعليمات بطريقة تنافي مضامينه، بل وتحقق عكسها تماما، حيث يسقط المواطن ضحية، ويشتبك مع جهات تنفيذية وربما قضائية، على أفعال لم يرتكبها فعلا، لكن مقتضيات إجرائية نفذها موظف، هي التي أدت وتؤدي لانهيار واضمحلال الأهداف وتحقيق نقيضها.
كتبت قبل أسبوعين عن نموذج من مثل هذه الإجراءات التي يقوم بها موظف آثر إدخال الناس في متاهات مع المؤسسات، وهدر لماله ووقته، ليدخل في نفق من الجدل والحروب الكلامية مع مؤسسات، بسبب "قلة ضمير" أحد الموظفين، و"انضباع مسؤولين" وعدم إقدامهم على اتخاذ قرارات، تبقي على هيبة الدولة واحترام كرامات الناس وحفظ حقوقهم. حماية المال العام، وإصلاح إدارة الشأن العام، لا تأتيان ببيع الأحلام، ولا بترسيخ البيروقراطية، التي تقود الموظف الحكومي للتغول على البسطاء و"الغائبين" فيعانون في وطنهم فقدان الكرامة وقلة الاحترام.