مع اضطرار العديد من دول العالم لإعلان بدء العودة إلى الحياة الطبيعية والفتح التدريجي والواسع لأغلب القطاعات، وهو أمر يتوقع أن ينطبق قريبا على الأردن أيضا، يتزايد التداول بين العديد من الناس بمختلف طبقاتهم لنظريات المؤامرة التي باتت تشكك بحقيقة وجود خطر حقيقي من مرض “كوفيد 19” أو وباء كورونا، والزعم بأنه خطر مفبرك ومبالغ فيه تم الضخ فيه لتحقيق غايات سياسية للحكومات، وذلك إلى الدرجة التي باتت فيه مثل هذه النظريات محل نقاش وجدل عبر وسائل إعلام رسمية حول العالم ويتم تبنيها من قبل سياسيين وأوساط اجتماعية وثقافية مختلفة.
حتى بيل غيتس، مؤسس شركة “مايكروسفت” الذي يعد أغنى أغنياء العالم ويدير عملا خيريا وتطوعيا بمئات الملايين، لم يسلم من شرور نظريات المؤامرة واتهامه بالشخصية الفاعلة فيها، فيما وفرت حرية النشر المفتوحة على إطلاقها عبر مواقع التواصل الاجتماعي المجال واسعا لإغراق هذا الفضاء وأذهان الناس بالأخبار والتسجيلات المفبركة أو المنقوصة والتي وفرت مادة دسمة لنظريات المؤامرة. كما أن بعض وسائل الإعلام الرسمية أسهمت هي الأخرى بتعزيز انتشار مثل هذه النظريات وهي تبحث في بعض مقالاتها أو برامجها وحواراتها عن الإثارة والمزيد من الانتشار و”اللايكات”.
في خضم الانهماك بقصص نظريات المؤامرة و”شواهدها” والتصريحات المجتزأة هنا وهناك، تغيب عن الأذهان الشواهد والدلائل الأكثر وضوحا ورسوخا التي تابعها كل الناس حول العالم أولا بأول لانتشار هذا الوباء وما خلّفه ويخلّفه من ضحايا وإصابات، وتسببِ ضغوطِه بفشل وتعثر الأنظمة الصحية في العديد من الدول التي ابتليت بمعدلات انتشار واسعة، وخسارة السياسيين والحكومات شعبيا، على الأقل في الدول الديمقراطية، من حجم الضغوط الصحية والمعيشية والاقتصادية التي خلفها الوباء على شعوبهم وعجز أغلب الدول عن تعويض الناس عن كامل خساراتهم الاقتصادية.
واللافت أن حديث نظريات المؤامرة تزايد مع توالي إعلانات العديد من الدول عن بدء إجراءات رفع الحظر وإعادة الحياة لطبيعتها تدريجيا رغم عدم القضاء على الوباء ولا حتى انحساره بصورة أكيدة. هنا فإن ما يتجنب مروجو هذه النظريات الوقوف أمامه هو أن الحكومات اضطرت وتضطر إلى محاولة التعايش مع الوباء بعد أن تفاقمت الآثار الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية القاسية على الشعوب والدول جراء الحظر وتعطيل العديد من القطاعات الاقتصادية ما يهدد بما هو أخطر حتى من الآثار الصحية المباشرة للوباء.
نظريات المؤامرة حول وباء كورونا استندت كثيرا إلى آراء ودعوات اقتصاديين وحتى خبراء أوبئة وأطباء بضرورة العودة التدريجية للحياة الطبيعية، لكن هؤلاء كانوا واضحين بتبرير دعواتهم وبأنها تأتي لضرورة تجنب الآثار الكارثية معيشيا واقتصاديا واجتماعيا لاستمرار تعطل الحياة الاقتصادية، ولم يصل الأمر بهم للتشكيك بحقيقة وجود المرض وخطورته الصحية، بعد أن أصاب حتى الآن أكثر من 5.5 مليون شخص توفي منهم نحو 350 ألفا، وثلثا هذا الرقم في الولايات المتحدة وأوروبا.
العجز والضعف البشري أمام هذا الفيروس الشرس وما خلقه من حالة عدم يقين وخوف من المستقبل، فضلا عما تركه الوباء من تداعيات اقتصادية ومعيشية واجتماعية وسياسية قاسية يكاد لم ينج منها أحد، وعدم الثقة بالسياسيين والحكومات حول العالم، كل ذلك منح نظريات المؤامرة الخاصة بكورونا إكسير الحياة الرئيسي لتولد وتترعرع وتتضخم حتى طغت على الفضاء العام.
قد يكون الأخطر على هذا الصعيد ليس في ما يخلفه الإيمان بنظريات المؤامرة من زيف في الوعي، بل الخطر هو في انعكاس هذا التضليل لدى أوساط واسعة من الناس على استعدادهم وإمكانية تهاونهم مع الخطر الذي يشكله المرض والعدوى به في مقبل الأيام، خاصة وأن كل الآراء والدراسات العلمية الوازنة لا تستبعد موجات جديدة من انتشار الوباء حتى في الدول التي انحسر فيها.