لم تفقد الإدارة العامة للدولة الأردنية، في عز الأزمات التي كانت تهدد وجود الدولة، ميزة الحكمة والهدوء والاتزان، ولم نسمع عن مسؤول أردني آنذاك، من الذين ما نزال نذكرهم، أن فجر بالخصومة السياسية، أو امتطى مركب الانفعال، أو تعامل بمنطق الحدة المفرطة والعصبية.
لم يفعلوا ذلك، ليس، فقط، لأن السياسة، بأبسط معانيها، تستدعي الليونة والمرونة والتناوب بالنقاش، والتنازل إذا لزم الأمر، وإنما لأن الدولة والمجتمع معا، كانا يتمتعان بالحيوية والعافية، وكانا قادرين على إفراز أفضل المناخات والشخصيات، وأنماط التصرف والسلوك السياسي أيضا.
خلال الأسبوع المنصرف، رصدت نحو سبع وقائع، اتسم فيها الأداء السياسي بالانفعال، أبطالها مسؤولون ينتمون للطبقة السياسية، بعضها جاء في سياقات مجهولة، وأخرى في إطار نقاشات عامة حول قضايا وطنية مهمة، وإذا أضفنا لها ما حدث من ردود أفعال، اتسمت بالتوتر، من قبل المجتمع، فإننا سنجد أنفسنا أمام حالة تشبه “حلبة المصارعة”، لا يفكر أحدنا تجاه الآخر إلا بمنطق الضربة القاضية.
سأشير إلى واقعتين فقط، حدثتا في البرلمان الذي شكل على مدى السنوات الماضية أكبر “خزان” للانفعال، تقصدت البرلمان على افتراض أنه يمثل مسؤولين منتخبين، يعكسون سلوكنا العام، وما فعلوه نقتله الكاميرات للجمهور، وليس مجرد إشاعات، وسأترك ما تبقى من وقائع للقارئ الكريم.
الواقعة الأولى، ما شهدته جلسة البرلمان الأخيرة المخصصة لمناقشة “إعلان النوايا” من استعراضات سياسية، انتهت بالهروب إلى “الانفعال”، أعصاب النواب كانت مشدودة ضد الإعلان، لا بأس، لكن ما حصل أنهم اختزلوا غضبهم بطرد الوزير الذي وقع، وعطلوا كل أدوات المواجهة السياسية مع الحكومة، واختاروا الانسحاب تحت دخان “الصراخ” والتهديد، وفي تقديري أن الجلسة المقبلة لن تكون أفضل من سابقتها، ما دام أن وصفة “الانفعال” تكفي لإرضاء الجميع.
الواقعة الثانية، جلسة عقدتها إحدى اللجان البرلمانية مع رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات التي أعلنت مؤخرا إفلاسها، وموضوعها بحث حقوق العاملين، كان الانفعال، بالطبع، سيد الموقف، وانفض الاجتماع على إيقاع الصراخ المتبادل والطرد، وفقد العاملون فرصة إنصافهم، وتبين أن صدور السياسيين أضيق من المطلوب لاستيعاب الاختلاف بينهم، وبالتالي انتصرت العصبية على المصلحة العامة.
جولة واحدة، صباحا أو مساء، على الشاشات وأثير الإذاعات، التي تقدم البرامج الحوارية، خاصة السياسية، كفيلة بتأكيد أننا فقدنا “أعصابنا”، ودخلنا في دوامة الضجيج، والردح المتبادل، واستمرأنا “القصف” وتوزيع الاتهامات، وربما اللكمات، فلماذا حدث ذلك؟ لدي أسباب عدة، بعضها سأفصح به، وأخرى أتركها للمتخصصين في مجال علم النفس السياسي، لأنهم أدرى مني بها.
السبب الأول هو أن بلدنا تعرض لأزمات خانقة، وغير مسبوقة ربما، ضغطت على عصب الأردنيين، والمسؤولين تحديدا، وأفقدتهم القدرة على التفكير والنقاش بهدوء، السبب الثاني هو أن اتساع فجوة الثقة بين المسؤولين والمجتمع دفع الطرفين للتعامل بعصبية زائدة، وأربك المسؤول عند مواجهة أسئلة الناس وردودهم القاسية أحيانا، فأفقده الصبر وتسبب بانفعاله.
أما السبب الثالث، فهو أن قدرة بعض المؤسسات على تمثيل المجتمع ضعفت، وكذلك تراجع أداؤها وتقلصت خدماتها، وقد انعكس ذلك على بعض المسؤولين الذين أصبحوا عاجزين ومرتجفين، سواء عند الخروج للميدان لمواجهة مطالب الناس، أو عند توقيع أي قرار.
تبقى ملاحظة، ربما تصلح خلفية لفهم حالة الانفعال العام، وهي أن نحو 25 % من الأردنيين يعانون اضطرابات نفسية (لا تسأل لماذا؟)، حسب الجمعية الأردنية للأطباء النفسيين، ومن المتوقع أن تتصاعد هذه النسبة بسبب تداعيات جائحة كورونا؛ حيث أشارت آخر الدراسات (أنجزها فريق باحثين من جامعات محلية ومؤسسات) إلى أن 65.3 من سكان الأردن (نحو 6 ملايين) تعرضوا للتوتر النفسي، بنسب متفاوتة، منذ بداية الجائحة. وفهمكم كفاية.