التفاهة في العالم العربي، وربما في دول كثيرة في العالم، باتت صناعة بحد ذاتها، والأدلة على ذلك كثيرة، لكن اللافت للانتباه أن لا أحد يوقف كل هذه التفاهات، بل تتم رعايتها أحيانا.
هذه التفاهة التي يراد منها إنتاج أجيال سطحية، بلا قضية أو همّ سياسي أو وطني، تؤتي ثمارها، والكارثة أن من يقومون عليها في العالم العربي، يدركون حجم الخراب الذي يبثونه بين الناس، لكنهم يواصلون مهمتهم، لأن المهم لديهم هو جني المال، فقط، برغم أن كلفة هذا خطيرة جدا على بنية الشعوب، لكنهم من أولئك الذين لا ضمير لهم، ولا يفهمون معنى الخطأ ولا الإثم.
كيف يمكن أن نفسر إشغال الناس، بكل هذه القصص التافهة، فخبر عن انفاصل المطربة شيرين عن زوجها مجددا، يحظى بملايين القراءات مثلا، ومقابله خبر عن قتل للأبرياء في غزة، يمر مرورا سريعا، وخبر آخر عن ثروة ممثل عربي، يدخل عليه الملايين، في مقابل خبر عن مقتل عراقيين أو سوريين مثلا في حادث تفجير، فلا يحظى إلا بقراءات محدودة، وربما لا يهتم به أحد.
هذا الخط المتعاظم يوما بعد يوم، تترافق معه خطوط متوازية، تقوم على أساس كسر الحياء والقيم والأخلاق، في البث الذي نراه على وسائل التواصل الاجتماعي، وتكتشف أن كثرة لديها استعداد أن تفعل أي شيء من أجل المال، ترقص، تتعرى، وربما تستعمل مفردات إباحية من أجل ضمان دخول أكبر عدد ممكن على البث، وجني المال من الجهة التي تدير البث، مثل تيك توك، وغيره، وهذه الظاهرة تتزايد، فلم يعد هناك حياء، بل إن رؤية التعليقات في غالبها تثبت أن انحدارا كبيرا ينزلق فيه الكل، في عملية محو هوية شعوب بأكملها وغسيل عقلها الجمعي.
مسؤولية الدول الرسمية عن هذا الاجتياح مسؤولية كبيرة، فيما يتعلق بالمحتوى، إذ لا يعقل أن يتم ترك هذه الشعوب لكل هذه التفاهات التي تقود إلى إنتاج أجيال خربة دون أن ننسى غزوات المخدرات، واليأس، والبطالة، والفقر، وغير ذلك مما يؤدي إلى إنتاج بنى هشة جديدة وضعيفة.
أين هي مسؤولية الدول الرسمية عن محتوى الأشخاص الذين يتم وصفهم بالمؤثرين أو منتجي المحتوى الإعلامي، وهي ألقاب لا قاعدة في توزيعها، بل تمنحها مواقع التواصل الاجتماعي، وتتم صناعة رموز تافهة مهرجة لا قضية لديها، وإنتاج عشرات آلاف الشباب في كل بلد، يتسمون بالضعف وغياب الأخلاق، فوق الضعف في التعليم، وكأننا نوزع الألغام في هذه المجتمعات، دون رقابة فاعلة، ولا حتى سؤال عن جدوى المضمون والتهريج والمهازل التي يبثها كثيرون هنا وهناك.
هناك عملية غسيل للعقل الجمعي، لإحلال هوية جديدة غالبة، مكان الهوية التقليدية التاريخية، وفي الوقت ذاته عملية شطب متدرجة للرموز المؤثرة وطنيا ودينيا وسياسيا، لصالح إحلال رموز تافهة جدا، تبيع كل شيء مقابل المال، وفي ظل تعليم يفتقد للقيم والتربية، وغياب للخطاب الديني المؤثر، الذي يتم استبداله بخطاب ديني مكرور ومنفر، ولا جاذبية فيه، بحيث بتنا أمام عمليات تفريغ لكل مكونات الهوية الاجتماعية، بذريعة الحريات الشخصية والفردية.
القصة تمتد إلى كل مكان، إذ إن يوتيوب واحدٍ عن توقعات الأبراج، أو فن الطبخ، أو فضائح مطرب عربي في فرنسا، وغير ذلك تجلب ملايين المشاهدات، يأخذون حصتهم في الوريد من صناعة التفاهة، وبحيث يطغى هذا الموج على كل الأصوات التي تحاول تثبيت هذه الأجيال عند هويتها وقضاياها، في ظل عملية تجهيل وإرهاق متواصلتين، لنحر هذه المنطقة وتضييع أهلها.
هذا واقع أخطر من الحروب الخارجية، فالعدو الخارجي محدد الاسم والعنوان، أم حرب المحتوى التافه، فهي تتسلل إلى البيوت بشكل تدريجي وناعم، ولا تغضب الأنظمة العربية العتيدة إلا من النقد السياسي إذا مس الحكام، فيما تتعامى عن كل هذا السيل الجارف الذي نراه.
يبقى السؤال: لماذا يسكتون على صناعة التفاهة، ويتركونها لتكبر يوما بعد يوم؟!.