يجثم على العالم كله سؤال ثقيل عن المستقبل بما يحمله من غموض واختلاف جذري مؤكد عن الحاضر، .. ونحن في الأردن على سبيل المثال ننظر بقلق إلى مسار ومصير مؤسساتنا الأساسية والخدمية ومدى قدرتها على الاستمرار في أداء عملها فضلا عن استيعاب المواطنين.
لقد حظيت نسبة كبيرة من جيل الشباب اليوم بفرصة للتعلم في المدارس الخاصة وفي الجامعات، ولكن من المؤكد اذا استمر الوضع الاقتصادي الاجتماعي القائم فهذا الجيل سوف يكون عاجزا عن ارسال ابنائه الى المدارس الخاصة أو تدريسهم في الجامعات، .. وفي الوقت نفسه فإن المدارس الحكومية غير قادرة على الاستيعاب الفيزيائي للتلاميذ فضلا عن استيعاب متطلبات وتحديات التعليم المتغيرة والمعقدة وتلك قصة أخرى تحتاج إلى مساحة خاصة بها.
وحظي هذا الجيل بفرصة للرعاية الصحية ولكنها بقايا فرص لن يكون قادرا على توفيرها للجيل التالي، وفي ذلك فإن المشهد القادم يظهر أن البلد سوف يكون مقسوما الى قسمين مختلفين عن بعضهما في كل شيء، قسم يحظى بالمؤسسات والخدمات، وقسم آخر هو الأغلبية لن يتمكن من الوصول الى هذه الخدمات، لن يكون أمام الأغلبية من الناس فرصة سوى العمل في شروط قاسية في خدمة القلة المهيمنة، أو انتظار صدقاتهم وتبرعاتهم!
إن الجزء الأكبر من التحديات المستقبلية ليس تقليديا، بمعنى أن الإصلاح لن يكون في مواصلة النظر والاقتراح بتطوير ودعم وتعزيز المؤسسات الأساسية في التعليم والصحة والتكافل الاجتماعي، لكن الأعمال تتغير على نحو يجعل ثمة حاجة كبرى للنظر إلى إعادة تنظيم الأمم (الدولة والمجتمعات والأسواق والأفراد) وفق مرحلة جديدة تقل فيها الأعمال والوظائف التقليدية والسائدة التي نعرفها اليوم، وربما لن تنشأ أعمال جديدة كافية، والحال أن مجتمعات العمل موشكة على الاختفاء، وربما لن يكون العمل هو أساس الموارد والاقتصاد، وأقصد بالعمل الخدمات المنتظمة التي يقدمها أفراد إلى مؤسسات مقابل الحصول على المال.
يمكن النظر إلى التقدم، على أنه وعي الإنسان وإدراكه لمعنى وجوده، فقد نشأت الحضارة وتطورت في متوالية من السعي الإنساني الدائم، لأجل أن يكون للوجود معنى. وبملاحظة تاريخ الإنسان الاقتصادي الاجتماعي، كانت الحياة تتقدم وتتحسن بقدر ما يحقق الإنسان المعنى الذي يسعى إليه.. هكذا فإن المعنى، يظل قيمة عليا تشغل الأمم والأفراد والمجتمعات والمؤسسات، وعلى سبيل المثال، فإن جميع المؤسسات العامة والخاصة تبرر وجودها في صياغة مختصرة لرؤيتها ورسالتها، الرؤية بما هي ما نحب أن نكون، والرسالة بما هي ما يجب عمله لنكون ما نحب. وبطبيعة الحال، فإن الأفكار الكبرى والمنشئة للأعمال والمؤسسات تتحول غالباً إلى بديهيات تتعرض غالبا للنسيان والإهمال، أو تنشأ على نحو لا تدركه المؤسسات، أو لا تريد أن تعترف به روايات وأفكار جديدة تستقل مع الزمن عن الرواية المنشئة التي لا يعود يتذكرها إلا قليل من الناس، وقد يبدو ذلك جيداً أو معقولاً ما دامت المؤسسات والقيم والأفكار تعمل لصالحنا، فلا أحد يحب تغيير فكرة أو واقع يعمل لصالحه، بل سيقاوم التغيير، لكن تحدث أزمات ومراجعات كبرى عندما تحدث تحولات كبرى أو خطيرة، مثل أن تستأثر بالمنفعة قلة من الناس، فتصير الأعمال والمؤسسات مصلحة لفئة قليلة وليس جميعهم، إن الجميع هي كلمة السر في الرواية المنشئة والمبررة للأعمال والمؤسسات والتشريعات والقيم والأفكار، وهي ببساطة أن تعود بالفائدة على جميع الناس في مجالها، وألا تحتكرها قلة من الناس، وقد تحدث الأزمة أيضاً عندما تتغير البيئة المحيطة بالأعمال، وتنحسر الأفكار والمصالح المنشئة لها، والتي لم نعد نتذكرها، هكذا تصبح العودة إلى الرؤية والرسالة مواجهة قاسية مع الذات، لأننا نكون أمام حقائق تعمل وتغير، وربما تكون قد مضت شوطاً طويلاً ونحن لا نعرف، أو لا نريد أن نعرف.