الخميس 2024-12-12 15:50 م

الحركة الشعريّة الجديدة وخلع الأبواب المفتوحة أصلا

01:44 م

الوكيل - نشرت جريدة المغرب التونسية في عدديها 555 و556 الصادرين يومي 19 جوان و20 جوان 2013 مقالا موسوما بـ’الحركة الشعريّة الجديدة في تونس هاجس النصّ المفتوح وإيقاع التفاصيل’ للشاعرة أمامة الزاير، وهو مقال يعجّ بجملة من القضايا والأفكار، ما كنّا لنتجشّم عناء مناقشتها لولا الحيرة التي بثّها فينا ولولا قناعتنا بأنّ الكتابة الأدبيّة لا يمكن أن تنهض إلاّ بالمناقشة والحوار اللّذين يغذّيانها ويضيئان دروبها المعتمة.

وبما أنّ العنوان عتبة أساسيّة من عتبات النصّ توجّه القراءة وترسم أفقها فقد بدا لنا عنوان المقال واعدا مزدحما بكثير من التصوّرات والمفاهيم ‘الحركة الشعريّة’ ‘الجديدة’ ‘في تونس′ ‘هاجس′ ‘النصّ المفتوح’ ‘إيقاع التفاصيل’ وهو ما يطرح في ذهن المتقبّل جملة من التساؤلات: ما هو المقصود بـ ‘الحركة الشعريّة’؟ أهي حركة أدبيّة بمعنى courant litt’raire شأن الواقعيّة أو الرومنطيقيّة أو السرياليّة؟ أم مجموعة groupe من الشعراء يحكمها تصوّر متجانس للكتابة الشعريّة مثل جماعة ‘حلقة يينا’ في ألمانيا أواخر القرن الثامن عشر أو جماعة أبولو في مصر أو جماعة مجلّة شعر في لبنان أو جماعة الطليعة في تونس؟ أم كلاهما معا… ويخلع النعت الثاني على هذه الحركة صفة الجدّة ‘جديدة’، ما يجعلنا نتساءل كذلك أهي جديدة في مستوى الرؤية والطرح أم جديدة في مستوى الظهور أي من الناحية الزمانية؟ وهل يعني الظرف ‘في تونس′ أنّ هذه الرؤية متداولة في المشهد الأدبيّ العربيّ أو الغربيّ ولكنّها ضلّت طريقها إلى تونس ولم تفز بتأشيرة لدخول أراضيها إلاّ بفضل ‘الحركة الشعرية الجديدة’ ؟ أم تعني أنّها تجربة خاصّة بالكتابة الأدبيّة في تونس؟ وبذلك تكون هذه الحركة حركة هذا القرن بعد أن كانت ‘حركة الطليعة’ حركة القرن الماضي؟ أم أنّ تونس لا تعدو هنا أن تكون الإطار المكاني الّذي انبعثت منه هذه الحركة وبذلك تغدو من الزوائد في الجملة لأنّ روّاد هذه الحركة حسب اطّلاعي يكتبون باللغة العربيّة ما يعني أنّ نصوصهم تتحرّك داخل فضاء الشعر العربيّ.
نتخطّى العنوان الرئيسيّ فيطالعنا العنوان الفرعيّ بجملة من العبارات وهي ثلاث: ‘هاجس′ مضاف نكرة يحتاج إلى تعريف بالإضافة ومضاف إليه: ‘نصّ مفتوح’ و’إيقاع تفاصيل’ ولسنا نعلم ونحن إزاء مقال يبشّر بحركة شعرية جديدة ما الّذي جاور بين عبارة ‘هاجس′ ومفهوم للنصّ ‘نصّ مفتوح’ وتجربة في الكتابة ‘التفاصيل’ غير مكر اللغة إذ تنقلب على مجريها فتقول عكس ما يقتضيه المقام تماما. فقد جاء في اللّسان: ‘والهاجِس: الخاطر. وفي الحديث: وما يَهْجِسُ في الضمائر أَي وما يخطر بها ويدور فيها من الأَحاديث والأَفكار. وهَجَسَ في صدري شيء يَهْجِس أَي حَدس. وفي النوادر: هَجَسَني عن كذا فانْهَجَسْتُ أَي رَدَّني فارتَدَدْت. والهَجْس: النَّبْأَةُ تسمعها ولا تفهمها. ووقعوا في مَهْجُوسَةٍ من أَمرهم أَي اختلاط’ ففي المستوى الأوّل تعلّق الهاجس بالخاطر أو ما يقع في الضمائر ما يجعل ‘النصّ المفتوح وإيقاع التفاصيل’ يتحرّكان في حيّز المُتصوّر لا المنجز ويفتح مجال القول هنا على سؤال: هل تكفي النيّة للتبشير بحركة شعرية جديدة؟ أمّا في المستوى الثاني فيرتبطان بالغموض واللّبس. وفي هذه الحالة سيكون المقال وفيّا لعنوانه إذا لم يُجلِ هذه التصوّرات والمفاهيم التي يزدحم بها هذا العنوان. أمّا عبارة ‘النصّ المفتوح’ فإنّها تنفتح بدورها على جملة من التساؤلات: هل المقصود بالنصّ المفتوح النصّ الشعريّ الّذي يفيض على الحدّ الكلاسيكيّ في الكتابة وينفتح على أشكال تعبيريّة أخرى كالسّرد؟ وحينئذ ينبغي التذكير بأنّ عمر النصّ المفتوح أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان لأنّ هذا الضرب من الكتابة هو الّذي وسم الشعريّة الرومنطيقيّة الألمانية منذ أواخر القرن الثامن عشر بل إنّ عبارة الرومنطيقيّ قد أطلقت في دلالتها الأولى من قبل الكلاسيكيين على نصوص هذه الجماعة بمعنى الهجين أي النصّ المنفتح على أكثر من شكل لأنّه يهدّد هويّة النصّ الكلاسيكيّ. وإذا كان المقصود بالنصّ المفتوح هنا النصّ المشرع على أكثر من قراءة بالمعنى البارتي فإنّ أغلب التجارب الشعرية العربيّة الحديثة نصوص مفتوحة مثل تجربة باسط بن حسن أو المنصف الوهايبي أو محمّد الغزي أو محمّد الخالدي أو نصر سامي أو مجدي بن عيسى أو فتحي النصري أو سفيان رجب أو خالد الماجري أو محجوب العيّاري وغيرهم كثير على اختلاف طبيعة تجاربهم الشعرية بل إنّ بعضهم انفتح على مفهوم الأثر بالمعنى الّذي طرحه إيكو في كتابه ‘الأثر المفتوح’ وذهب إلى طرح مفهوم الكتابة بدل النصّ ومفهوم الكتاب بدل المجموعة الشعريّة مثل المنصف الوهايبي الّذي وسم كتابه ‘مخطوط تمبكتو’ بـ’كتاب شعريّ’ بوصفه أثرا يجمع مجموعة من النصوص التي تتحرّك داخل عالم واحد وتعمل جميعا على الحفر في ‘تيمة’ واحدة. ولم تسلم عبارة ‘إيقاع التفاصيل’ من اللّبس الّذي تلبّس بشقيقاتها لأنّ الحديث عن إيقاع التفاصيل -بغضّ النظر عن المقصود بالتفاصيل- يجعل الكتابة مفتوحة على الخارج، على إيقاع الأشياء في ذاتها، لا على شعريّة الأشياء بمعنى ما يجعلها مادّة لبناء الشعر، فلا تتجاوز وفق هذا التصوّر كونها محاكاة لذلك الإيقاع، بينما تعقد الكتابة علاقة بين الذات والخارج أشبه بالثَنْية le pli لأنّها إذ تستدعي هذه التفاصيل لا تستدعيها لكونها مجرّد تفاصيل وإنّما لأنّها حرّكت الذات الشّاعرة فرأت فيها عكس ما توحي به في الواقع أو حُمّلت به من دلالات ولعلّ ذلك ما يفسّر النزعة التأمّليّة في هذا الضرب من الكتابة.
هذه إذن بعض الملاحظات المبدئيّة التي أثارها عنوان المقال ما كنّا لنطرحها إلاّ لقناعتنا بأنّ الحركة الشعريّة تتطلّب وضوحا في الرؤية في مستوى التصوّر وانسجاما بين هذه الرؤية ونصوص روّاد الحركة في مستوى الممارسة وإجلاء للمفاهيم الأساسيّة التي تقوم عليها في مستوى بيانات أصحابها أو نصوصهم الشعريّة في ما بات يعرف بـ ‘الشعر على الشعر’. وذلك ما سنعمل على محاورته في الأجزاء التالية من هذا المقال باستثناء البيانات فقد اخترنا أن نرجئها إلى مقال مُفرَد خاص بها لكثرة ما وجدناه فيها من تناقضات ومن محاكاة حرفية لبيانات أخرى في الشعر العربي جعلتها في تصوّرنا مجرّد صدى لها. فما هي أهمّ القضايا التي طرحتها أمامة الزاير في مقالها؟
توزّع مقال أمامة الزاير ‘الحركة الشعرية الجديدة في تونس هاجس النص المفتوح وإيقاع التفاصيل’ على أقسام أربعة: 1/ جدوى الثقافيّ وسط إسهال سياسي. 2/ حركة تترجم أحلام جيل مستهدف. 3/ لا بدّ من قتل الأب/اليتم. 4/ نحن لا نقلّد أحدا وفكرة الجماعة ستحرّر الشعر من مأزقه. وفاضت أفكاره على حدود هذه الأقسام فتكرّر بعضها في أكثر من قسم لذلك رأينا لغاية منهجية أن نعيد ترتيبها وفق النقاط الأساسيّة المطروحة في المقال وهي أربع: 1/ دوافع تأسيس الحركة. 2/ مميّزات الحركة. 3/ قيمة البيانات في تشكيل الحركة. 4/ غايات الحركة.
1/دوافع تأسيس الحركة:
تركّزت دوافع تأسيس الحركة وفق ما جاء في مقال الزاير على دافعين اثنين تعلّق أوّلهما بسطوة السياسيّ على الثقافيّ وهو ما جعل الممارسة الإبداعيّة حسب رأيها في تبعيّة للسياسيّ وفي هذا السياق تقول: ‘للمثقّف علاقة معقدة مع السياسة التي تحاصره وتفرض عليه أنواعا شتّى من القمع والهرسلة لتصفيته نهائيا.. فهل يمكن الاعتقاد في جدوى حركة شعريّة اليوم تحاول التخلّص من هذه القيود ومن تبعيّتها للسياسيّ؟’ وهو قول يبدو في ظاهره منسجما مُقنعا ولكنّه يندرج ضمن ما يُعرف بـ ‘الحجاج المغالطيّ’ كأن نقول: ‘الشعر أدب، النثر أدب، النتيجة= الشعر نثر. وقول الزاير يفضي إلى القياس التالي: السياسي مهيمن على الثقافي. الإبداع فعل ثقافي. النتيجة: الإبداع خاضع لإملاء السياسي. فما يجعل من الحركة الشعريّة حركة جديدة هو النصّ والرؤية الجديدة التي تحكمه وتغذّيه، أمّا مقاومة تهميش السلطة للمثقّف فتتمّ من خلال هيكل يدافع عن المثقّف وآليات تكفل عدم إخماد صوته مثل القوانين التي تضمن حريّة الإبداع والتعبير. وهو قول ينطلق من مسلّمات غير ثابتة ويجريها مجرى الحقيقة المطلقة مثل تبعيّة المثقّف للسياسيّ فهل يندرج ما كتبه المنصف الوهايبي قبل ‘حركة نصّ’ ضمن تبعيّة السياسي؟ وهل أن ما كتبه باسط بن حسن في مجاميعه الشعريّة كلّها كان تحت إملاء شيطان السياسيّ والرجل لم يكن يعلم ذلك، لولا التفاتة حركة نصّ؟ هناك إجماع على أنّ النظام السابق عمل على تهميش الثقافة ولكن كيف نفهم هذا التهميش في ظلّ الشعارات التي كانت ترفع؟ إنّ الخطر الحقيقيّ الّذي ألحقه النظام بالثقافة تمثّل أساسا في ضرب كلّ الهياكل الثقافيّة والآليّات المتحكّمة فيها، فهو يدعم المسرحيين من جهة ويقضي على فضاءات العرض والفرق الجهويّة من جهة أخرى، يدعم الكتاب ويحلّ الشركة التونسية للنشر والتوزيع، يوفّر للشعراء الجوائز والمهرجانات ويضيّق كلّ الأطر التي من شأنها أن تساعدهم على نشر نصوصهم وإيصال تجاربهم، وحين تتحدّث الشاعرة أمامة الزاير عن ‘حملات استهداف الشعراء من خلال تسميتهم بالشعراء الشبّان وتقزيم تجاربهم الشعريّة ومحاولات إقصائهم من المشهد الشعريّ’ فإنّني أودّ أن ألفت انتباهها إلى أنّهم لم يوجدوا أصلا حتّى تقزّم تجاربهم، إذا كنا نفهم وجود الكاتب من خلال المكتوب، لأنّه لم تتوفّر لهم فضاءات النشر والإعلام الحقّ وقد رُسمت لهم مسبّقا الخارطة التي يتحرّكون فيها وهي المهرجانات الشعريّة. أمّا الحديث عن تجاربهم فيفضي إلى طرح السؤال التالي: هل يكفي أن نكتب نصّا شعريّا جميلا للحديث عن تجربة والتجربة تُبنى على رصيد في الكتابة وتجانس في الرؤية الفنيّة؟ وهل يكفي ذلك للحديث عن حركة شعرية جديدة؟
ولئن كان الدافع الأوّل من خارج النصّ فإنّ الدافع الثاني يحاول أن يقرّبنا من النصّ ولكنّه يبقينا خارج فضاءاته وهو تشتّت الشعراء وفي هذا الإطار تقول أمامة الزاير في قراءة تاريخيّة مجملة: ‘تعدّدت الحركات الشعريّة في تاريخ الشعر التونسي ولكنّها ظلّت حركات محدودة ولم تعمّر طويلا. ربّما بسبب أنانيّة الشعراء وتجذيفهم كلّ في قاربه دون اهتمام بما يحدث في الجهة الأخرى أو في القارب الآخر. فكان الشعراء مسكونين بهاجس تكريس ‘الأنا’ في المشهد الشعريّ. ولذلك لم نعثر بعد على مشروع شعريّ يؤسّس لفرادة الشعر التونسي، إذ كانت التجارب الشعرية على تعدّدها منثورة هنا وهناك.’وإذا غضضنا الطرف عن أنانيّة الشعراء لأنّها السبب في هذا التشتّت حالت لعلّة في أنفسهم دون فوز البلاد بحركة شعريّة.. وإذا غضضنا الطرف كذلك عن كون هذه الأنانيّة هي السبب في انسحاب أكثر من عضو مؤسّس من الأعضاء السبعة من ‘حركة نص’ وبيانها الموحّد تجاوز السنة ولم يُكتب بعد، فإنّ الدافع الأساسيّ هنا هو لمّ شتات الشعراء إذ يكفي لمّ شتات هذه الأصوات المبثوثة هنا وهناك حتّى نؤسّس حركة شعريّة بل وجديدة، وفي هذا السياق أقول سامح الله وزير التجهيز والإسكان في النظام البائد حين لم يستجب لمطلب الشاعر أولاد أحمد منذ سنوات عندما طالب بأن يكون للشعراء حيّ سكنيّ نسميه ‘حيّ الشعراء’ أسوة بالصحفيّين الّذين تمتعوا بـ ‘حيّ الصحفيين’ فلو استجاب سيادته السيّد الوزير آنذاك لصرنا نشاهد ازدحاما في الحركات الشعريّة كلّ يوم، حركة شعريّة أمام الخبّاز وحركة شعريّة أمام ‘العطّار’ وحركة شعريّة أمام ‘الحلاّق’ ما دام الشعراء يعيشون داخل حيّ واحد… ولكنّ السيّد الوزير غفر الله له ركب رأسه وحرم البلاد والعباد من كلّ هذه الحركات وقد تكون وزارته غير مهيّأة آنذاك لتجهيز الطرقات بالشروط الدنيا التي تجنّبنا ‘الأمبوتياج’ في غير أوقات الذروة إزاء هذا الحشد المتوقّع من الحركات.
لقد كنّا ننتظر أسبابا فنيّة فيها تقييم حقيقيّ للمنجز الشعريّ السابق وإبراز لمواضع الوهن فيه ومواضع الجدّة والفرادة، ولكنّنا لم نجد من الأسباب إلاّ ما كان عامّا مجملا ومن خارج النصّ في حركة تحمل اسم ‘حركة نص’ وقد يكون ذلك غير ضروريّ في عنصر الدوافع ما دامت صاحبة المقال ستتكفّل بإبراز مميّزات هذه الحركة فنكون بذلك من المتسرّعين في إطلاق الأحكام فلا إخال إطلاق اسم ‘الحركة الشعريّة الجديدة’ من قبيل غواية التسمية والأكيد أنّ الشاعرة ستبرز لنا مميّزات هذه الحركة التي تجعلها مختلفة عن المنجز النصيّ في تونس وخارجها.

2/مميزّات ‘الحركة الشعريّة الجديدة’:

انطلقت أمامة الزاير في مقالها ‘الحركة الشعرية الجديدة في تونس هاجس النص المفتوح وإيقاع التفاصيل’ في إبراز سمات هذه الحركة من سؤال أساسيّ: ‘ما هي ملامح حركة نصّ التي تجعلها مختلفة عن غيرها في المشهد الشعريّ؟’ وجاءت الإجابة إجابات لأنّ مسألة بهذا التعقيد تتطلّب الخوض في أكثر من فكرة والتدقيق في أكثر من مفهوم، فأعلنت في البداية عن سمات الحركة في سياق التعريف بطبيعة الممارسة الإبداعيّة لدى المنضوين تحتها: ‘أصوات ملأى بحبّات الطلع والندى الفجريّ. تورق من عتمة الشارع التونسي، وتضيء الهامش وتعلن قيامتها بأشكال مختلفة. (…) لم ترد هذه الأصوات غير قدّاس يقام على شرف النصّ. وقد احتفت هذه الأصوات بتفجير المعنى والتجريب والمجازفة بالكتابة وخوض غمارها وتسلّق جبالها ودخلت مصنع الشعر ولم تتعمّد محو أثر الجريمة.. لتعلن فقط أنّها هنا وأنّ الشعر أبقى وأنقى. كتابة توهم أحيانا بالحياد ولكنّها تورّط نفسها في المشهد ملتزمة بإيقاع الواقع تنبش في التفاصيل وفي الهامش لتعيد صيغتهما.’ ويمكننا تقسيم هذا التعريف إلى مستويات:
أ/ خطاب إنشائي أعلق بالإبداع منه بالتعريف:
-’أصوات ملأى بحبّات الطلع والندى الفجريّ تورق من عتمة الشارع التونسي’
- ‘المجازفة بالكتابة وخوض غمارها وتسلّق جبالها’
ب/ خطاب مجمل جاء في شكل استعاريّ هو الآخر ولكنّه قُدّ من معجم ينتمي إلى عالم الكتابة وذلك منشأ اختلافه عن الخطاب الأوّل. ويمكن تقسيمه إلى مجموعة من السمات التي رأت فيها الكاتبة تمييزا للحركة الشعرية الجديدة من غيرها:
-’تفجير المعنى’.
-’التجريب.’-'دخلت مصنع الشعر ولم تتعمّد محو أثر الجريمة.’
-’توهم بالحياد ولكنّها تورّط نفسها في المشهد’
-’ملتزمة بإيقاع الواقع تنبش في التفاصيل وفي الهامش لتعيد صيغتهما’
فبالنسبة إلى النقطة الأولى لم نفهم المقصود بـ’تفجير المعنى’ وعلام تتحدّث الكاتبة؟ هل تتحدّث هنا عن ‘المعنى’ le sens أم تتحدّث عن ‘الدلالة’؟ la signification لأنّ الدلالة داخل الخطاب والمعنى اكتساب avoir un tel sens لأنّه في التأويل والتقبّل. هل تقصد بعبارة التفجير تناثر الدلالة Dissemination ؟ أم تقصد التدلال signifiance ؟ أم تقصد بأنّها تضع المتقبّل إزاء أكثر من إمكان للظفر بمعنى؟ وما هي علاقة هذا التصوّر باللغة؟ هل تعني به اللغة اللازمة التي تبني عالمها محاولة التنصّل من كلّ ضروب الإحالة على مرجع مثل تجربة أدونيس أو تجربة عفيفي مطر وهو التصوّر الذي طرحه مالارميه ضمن مفهوم الشعر المحض؟ أم هو مرتبط باللغة المتعديّة التي تقوم أساسا على منطق الإحالة على المرجع خاصّة وأنّ الشاعرة تتحدّث عن الواقع والتفاصيل؟ وإذا كانت الحركة الشعريّة الجديدة تقوم على تفجير المعنى، فهل يعني ذلك أنّ كتابات من سبقها مفرغة من الإيحاء مباشرة عارية أحاديّة الدلالة؟
- التجريب: وهو في تصوّرنا مقوّم أساسيّ من مقوّمات الممارسة الإبداعيّة لأنّه يوسّع من آفاق الكتابة ويفتح أمامها مسالك جديدة فلولا كتابات نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب لما كانت حركة الشعر الحرّ، ولولا كتابات أنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال لما ترسّخت قصيدة النثر بل إنّ التجريب يتجاوز المستوى الشكليّ إلى القصيدة كلّها لأنّ كلّ قصيدة ضرب من التجريب في صراع الشاعر مع مادّة الكتابة ومحاولة تطويعها حتى يكون النصّ فريدا فرادة الذات المنتجة له ويخرج من التنميط والقوالب الجاهزة والمشترك لذلك فإنّه لا يمكن أن يخضع لمنطق المبادلة إذ لا نستطيع أن نعوّض نصّا بنصّ. ولكنّ التجريب مقترن بمفهوم أساسيّ آخر على نحو تلازميّ وهو مفهوم المغايرة، فهل تعني المغايرة الإبداعَ ضرورةً؟ وإذا كان كلّ إبداع مغايرة فهل أنّ كلّ مغايرة إبداع؟ ومن هنا فإنّ التجريب شرط للإبداع وليس غاية له، والقول إنّه يمثّل سمة من سمات الحركة الشعريّة فيه إقرار ضمنيّ بأنّ المنجز النصيّ السابق خلوٌ من التجريب منمّط ثابت، وفيه تغافل عن بعض المحطّات التي قامت أساسا على مفهوم التجريب بكلّ معانيه في الشكل والإجراء مثل حركة الطليعة، ولكنّ هذه الحركة لم تنجح ليس لأنّها قامت على التجريب وإنّما لأنّها توقّفت عند حدود المغايرة. واعتبار التجريب سمة من السمات التي تنهض عليها ‘الحركة الجديدة’ فيه مغالطة واحتكار للإبداع.
-’دخلت مصنع الشعر ولم تتعمّد محو أثر الجريمة.’: وهو قول لا يشذّ عن اعتبار الكتابة الشعريّة صناعة لأنّها تتطلّب شأن كلّ ضرب من ضروب الإبداع جملة من الأدوات ومادّة يقع التصرّف فيها، وإذا كان من شروط الصناعة الجيّدة محو آثار مراحل تشكّلها حتّى تبدو طبيعيّة توهم بعفويّة الصانع، فإنّ ما يميّز الحركة الشعريّة الجديدة أنّها تترك للمحقّقين أثر الجريمة، ولم نفهم المقصود بالأثر هنا على الرغم من أنّ الكاتبة تكرّر هذه العبارة في أكثر من موضع من كتاباتها ولكنّها تتركها دائما مُلغزة عامّة لا تعدو أن تكون ضربا من ضروب المغايرة والعدول المجّانيّ، وإن سعت إلى تبرير ذلك فقد جاء تبريرها متسربلا بالغرابة والغموض:’دخلت مصنع الشعر ولم تتعمّد محو أثر الجريمة.. لتعلن فقط أنّها هنا وأنّ الشعر أبقى وأنقى’ فلَوْلا تلك الآثار لما تفطنّا إلى أنّ وراء النصّ شاعر يكابد في تشكيله. إنّ آثار الصناعة إذن هي التي ترشدنا إلى وجود شاعر خلفها، أمّا القصائد الأخرى التي لا تخلّف أثرا فهي يتيمة ضائعة تتلاقفها الأسماع وتلوكها الألسن وتستبيحها الأعين دون غضّ النظر لأنّها بلا مؤلّف ولعلّ ذلك ما حدا بالشاعرة في موضع آخر في سياق حديثها عن قتل الأب إلى عبارة كنّا نحسبها زلّة لسان ولكنّنا حين فهمنا إصرارها على ترك آثار الجريمة فهمنا القصديّة الكامنة وراء هذه العبارة وهي: ‘إنّ اليتم هو الأب الّذي لا بدّ أن نقتله’. ويندرج هذا الربط السببيّ بين آثار الصناعة/الجريمة مرّة أخرى ضمن ‘الحجاج المغالطيّ’ لانتفاء العلاقة بين الأسباب والنتائج.
-’توهم بالحياد ولكنّها تورّط نفسها في المشهد’/ ‘ملتزمة بإيقاع الواقع تنبش في التفاصيل وفي الهامش لتعيد صيغتهما’: وقد بدت لنا هذه العبارة ملتبسة بدورها فقد يكون المقصود بالحياد الحدّ من الغنائيّة التي تجعل الذّات متضخّمة داخل الخطاب لذلك اقترن الحديث بعد ذلك عن التفاصيل ولكنّه جاء متناقضا لأنّ الالتزام بالواقع يطرح تصوّرا للأدب يقرنه بالمحاكاة أمّا النبش في الهامش والتفاصيل وإعادة صياغتها فإنّه يقرن الأدب وإن تلبّس بلبوس الواقع، بالخلق والإنشاء، لذلك وجدناها غامضة تعجّ بالمفارقات فهي محايدة وغير محايدة ملتزمة وغير ملتزمة لا تفسير يجلي غموضها إلاّ إذا فهمناها في ظلّ تصوّر الجاحظ الموسوعيّ للأدب وهو: ‘الأخذ من كلّ شيء بطرف’. وإذا كان الاهتمام بالتفاصيل سمة تسم هذه الحركة عن بقيّة المدوّنة الشعريّة فيكفي في هذا السياق التذكير ببعض المجاميع الشعريّة مثل ‘أصوات المنزل ‘ لفتحي النصريّ و’ديوان اليوميّ’ لمجدي بن عيسى دون الخوض في تجارب شعراء آخرين جعلوا من الهامش مادّة غنيّة لقصائدهم مثل محمّد رضا الجلاّلي في مجموعته ‘خطايا لم يرتكبها أحد’ ودون الحديث عن تجارب عربيّة تخطّت نصف قرن من الزمان في العناية بالتفاصيل مثل تجربة الشاعر العراقيّ سعدي يوسف أو تجربة الشاعر سامي المهدي. ولكنّ عبارة ‘الجديدة’ التي وسمت هذه الحركة تجعلها مثل من يحاول خلع الأبواب المفتوحة أصلا وتجعل تصريحاتهم محلّ استغراب فحين تقول الشاعرة: ‘لم يكتفوا بالصيغ المتداولة وطرائق الكتابة التي تقصي الاختلاف’ فإنّها لا تعلم أنّها تمارس الإقصاء في اللحظة ذاتها لأنّها تقفز على رصيد كبير من النصوص يتوفّر على السمات ذاتها التي تسم بها ‘الحركة الشعريّة الجديدة’ وحين تقول: ‘حسبنا أنّ الشعريّة العربيّة اليوم تُبثّ من تونس..’ لا تعلم أنّ الشعريّة بالملامح التي تتحدّث عنها متجذّرة في أكثر من تجربة في الشعر العربي في مصر والسعوديّة والعراق وكردستان… حتّى أنّني حين قرأت هذه الجملة على الصديق الشاعر رمزي بن رحومة وأنا أقول له مازحا ‘مش قتلك إلّي في عينك حلا مش كان من البرّه جا’ أجابني مستغربا هو الآخر عن طبيعة البثّ في هذه الشعريّة ‘هل هو بثّ أرضي أم فضائيّ’.
هكذا نبقى في حيّز المجمل وفي حيّز التفكير الثنائيّ الذي يقوم بدوره على الإقصاء لأنّه يضعنا في المقابلة التالية: شعر قديم لا جدّة فيه/حركة شعرية جديدة، زاجّين بكثير من التجارب الشعريّة في خانة واحدة، أو مختزلين لها في مجموعة شعرية واحدة مثلما اختزل بعض نقّادنا تجربتي المنصف الوهايبي ومحمد الغزي في مدرسة القيروان أو الصوفيّة بينما لم يصدر الشاعران سوى مجموعة واحدة تنتمي إلى هذا التصوّر ‘ألواح’ للوهايبي و’كتاب الماء كتاب الجمر’ للغزي، ومهما أصدر الشاعران بعد ذلك من مجاميع شعريّة وكتب ومهما جرّبا من أشكال جاءت منسجمة مع تصوّراتهم الجديدة مثل ‘كتاب العصا’ للوهايبي أو كـ’اللّيل أستضيء بنجومي’ للغزي فإنّهما سيظلاّن شاعرين تقليديين لم يقوما بما قام شعراء حركة نصّ، وكذلك شأن آدم فتحي فلن يشفع له ديوانه ‘نافخ الزجاج الأعمى’ لأنّه سيبقى شاعرا كلاسيكيّا غنائيّا في نظرهم، ولن يسلم محمّد الخالدي بدوره فمهما برع في تطويع السرد داخل النصّ الشعريّ وإجراء تقنية التدوير بأشكالها المختلفة منذ ثمانينات القرن الماضي فإنّنا سنختار له من مجاميعه وكتبه التي فاقت العشرة كتابا نسجنه فيه ونستريح من وجع الرأس.
شاعر تونسي


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة