الأحد 2024-12-15 10:47 ص

الرجل الثاني

08:22 ص
في كل أزمة تواجهها البلاد ثمة حلقة مفرغة تبقى مجهولة ولا يقترب منها الإعلام ولا لجان التحقيق والتحقق، يبدو جانب منها في تحديد المسؤوليات وفي الاعتراف بها وعدم التنصل منها، في الوقت الذي تسيطر طبقة من الغموض على العلاقة بين السياسي والإداري أو الفني في تحمل هذه المسؤوليات والتعبير عنها، أقصد هنا أن الطبقة الإدارية العليا في الدولة التي تسير الأمور اليومية وفي يدها جل الصلاحيات غائبة في حسبة تحمل المسؤوليات جنبا إلى جانب الطبقة السياسية.

كنا إلى وقت قريب نحسب أن أحد عناصر قوة الدولة الأردنية تكمن في قوة التكنقراط الحكومي بالمقارنة مع ضعف الطبقة السياسية، هذه الفرضية تحتاج إلى مراجعة سريعة وهادئة، فهناك شواهد كثيرة تدل على أن التكنقراط الحكومي لحقه الضعف وتراجع الكفاءة خلال السنوات الأخيرة، ولم يعد يمثل أسنان ماكنة الدولة التي تدور بقوة من أجل التقدم، فإبداع الحلول غير التقليدية ليس مجرد شعار بل يحتاج الاعتراف بكل مصادر الضعف ووصفها بشكل علمي دقيق.
برزت شعارات سياسية عديدة خلال آخر عشر سنوات تحدثت عن ثورة إدارية بمختلف الألوان، وفي النوايا الحكومية كلام مرسل وجميل عن استعادة كفاءة الجهاز الحكومي، وللإنصاف حدثت خطوات مهمة في السنوات القليلة الماضية، لكنها لم تمس إعادة بناء النخبة التكنقراطية على أسس جديدة تراعي التطور الاقتصادي والاجتماعي وحاجات الدولة وضرورات التحديث ومواجهة التحديات والأزمات الخانقة.
ما تزال أزمة إدارة ندرة الموارد هي المسيطرة، وهذا صحيح، ولكن مواجهة هذه الأزمة التاريخية لا تستقيم بالأدوات الاقتصادية ذاتها، فهي بحاجة إلى مراجعة عميقة للموارد البشرية وتحديدا الصفوف المتقدمة في المؤسسات العامة التي أكل الدهر على بعضها وشرب، بل إن الأزمة في آليات تصعيد هذه النخب تعمقت أكثر مؤخرا مع عودة المعايير التقليدية والحسابات السياسية مجددا على حساب الكفاءة والمصلحة العامة.
بوضوح أكثر، هناك نحو مائة موقع عام وحكومي تشمل قيادات في الصف الثاني والثالث في المؤسسات العامة الاقتصادية والخدمية والسياسية تحتاج إلى مراجعة عميقة من منظور الكفاءة والتحديث، فالدولة كائن حي تحتاج إلى تجديد الدماء وألا يصيبها الوهن والمرض والموت، واستمرار الأمر الواقع يفسر جانبا مهما من الاختلالات والفشل والفرص التي تحولت إلى بؤر ضعف في الأداء العام.
هناك أمثلة عديدة على تلك الاختلالات، وأمثلة تدل على الفرص التي تحولت إلى فجوات وأحيانا كوارث على المجتمع، وعبء على الاقتصاد الوطني في قطاعات عديدة، كانت بأمس الحاجة إلى توليد حلول غير تقليدية أو إلى القليل من الحكمة والدراية، ولكنها تحولت إلى قطاعات لا تقدم أي إضافة حقيقية للاقتصاد والمجتمع.
يبدو الاختلال لا يتوقف على تكوين النخب بل ينسحب إلى وقوف النخب التقليدية في وجه تحديث المؤسسات فيما يتبع ذلك فجوة بين إدراك مصادر الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين القدرة على تطوير الحلول والبدائل، حيث عمل التراكم السلبي لهذه الظاهرة على المساهمة في ضرب العلاقة بين المجتمع والدولة في العمق، فالدولة تعرف نفسها وتبني الثقة بنخبها وبإنجازاتها، فيما سيبقى استمرار ظاهرة الخوف من التكنقراط التقليدي أحد مصادر التأزيم التي ستجعل المجتمع والدولة يدفعان ثمن استمرارها. علينا أن ندرك حجم الأزمة في صناعة السياسات العامة وإنضاجها، والمتمثلة في الارتجال في بعض القطاعات، وعدم بناء خبرة وطنية في قطاعات أخرى؛ وكذلك في ضعف أدوات المشاركة في بناء السياسات العامة،والضعف في الاستجابة للأزمات.
التكنقراط هم عصب الدولة وعمودها الأساسي ودورهم قد يتجاوز أدوار السياسيين، وعليهم مهمة إنضاج السياسات العامة ووضعها موضع التنفيذ، وهم من يدير الأزمات، والدولة الراشدة هي التي تبقي هذه الطبقة الصغيرة تحت المجهر دوما.
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة