الخميس 2024-12-12 20:47 م

غسيل القلوب

12:22 ص

عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار، ولا يغسل قلبه مرة واحدة في السنة، هذا قول منسوب لـ 'ميخائيل نعيمة'، وهو على درجة عالية من الإحساس العميق بالحاجة الملحة للأغلبية الساحقة من أفراد مجتمعاتنا جميعها الصغيرة والكبيرة، المثقفة وغير المثقفة، السياسية وغير السياسية، الإسلامية وغير الإسلامية، وخاصة في مثل هذا الزمن.

تعرض القلوب للغبار المتطاير من الحراك المجتمعي، والتعامل مع البشر أمر طبيعي وعادي جداً ومنطقي، تماماً كما تتعرض وجوهنا المكشوفة لغبار الشوارع وما تحمله الرياح من شوائب عديدة وكثيرة ومتنوعة، زادتها الحياة المعاصرة تعقيداً ولزوجة، بحيث أصبحنا بحاجة ماسة لغسيل وجوهنا مرات عديدة باليوم؛ بل أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً للبحث عن أنواع من المنظفات قادرة على إزالة ما يعلق بالوجوه من قتامة شديدة تحملها بيئة ملوثة ومليئة بمخرجات العوادم من كل حدبٍ وصوب.
البيئة السياسية أكثر تلوثاً، والبيئة الاجتماعية أشدّ بؤساً وتوتراً، والتعامل اليومي مع الحياة وتعاطي الشأن السياسي يلحق ضرراً بالغاً بالقلب، ويجعله عرضة لصدأ الحياة وغبار المناكفات المنبعث من عوادم بعض البشر الطارئين على الحياة السياسية، والمتطفلين على الثقافة والأدب، ممّا يشعرنا بالحاجة الملحة لغسل قلوبنا عدّة مرات باليوم الواحد، وليس بالسنة.
إنّ إهمال القلوب يجعلها محاطة بطبقة من 'الرّان' وهي طبقة سوداء تحيط بالقلب تحجب عنه النّور، وتمنعه من الرؤية الصحيحة للأشياء، وتجعله غير قادر على الموازنة بين الأمور وتحرمه من القدرة على التمييز بين الحقّ والباطل، وتختلط عليه الأمور، وقد يستفحل هذا التلوث فيؤدي إلى مرضٍ قاتل ووباء فتّاك يؤدي إلى عطب القلب الذي يصعب معه الشفاء، وربما يؤدي إلى الموت المحقق.
لقد ورد في الأثر النبوي' إنّ القلوب لتصدأ'، وبيّنت بعض الآثار النبوية مرض القلوب المؤدي إلى عدم القدرة على تمييز حدود المعروف من المنكر؛ بل قد يصل المرض إلى درجة مستفحلة بحيث يرى المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وهذا ينطبق على التعامل مع جميع شؤون الحياة وفي كلّ مجالات التعامل المجتمعي، ويظهر جلياً فيما يصدر عن الناس بين مواقف وأحكام تنطق بها التصريحات والبيانات والمقالات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تنبعث منها رائحة الصدأ وعفونة المرض.
نحن بحاجة إلى مبادرة مختلفة في هذا الشأن تُعنى بإنشاء 'محطة لغسيل القلوب'، تكون قادرة على تقديم الخدمات بهذا الصدد ونشر ثقافة جديدة للمعالجة والشفاء المعنوي للأفئدة، والعمل على ايجاد بيئة سلوكية نظيفة جديدة، يسهل من خلالها التعامل المجتمعي، ويسهل من خلالها التمكن من فهم الآخر، وفهم ما يقول وفهم ما يعمل، بعيداً عن الرؤية المضللة والتشويه المقصود.
نحن بحاجة إلى حماية أبنائنا، وأجيالنا القادمة من هذا الوباء الذي يفتك بالقلوب ويغلق نوافذ العقل، ويلوّث البيئة الفكرية والسياسية، ويؤدي إلى وجود كائنات مريضة تنشر الحقد الأسود في كلّ مكان وتلطخ الأشياء الجميلة، وتودي بمنجزات الأمّة، وتحجب شمس المعرفة بضباب الجهل المطبق وغبار الضغينة وسوء الطباع .


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة