لربما سيغفلُ عالمنا عن الموتى الذين خرجوا من قبور الأحياء قبل أسبوع مسربلين بأكفانهم. لكنه لن يغفل يوماً عن موتى ما زالوا يحيون في مرابع الذاكرة وجنانها الفسيحة. عالمنا لن يتذكر شيئا عمن يولدون بلا ذاكرة، وإن كانوا في عداد الأحياء المرصودين في سجلات دوائر النفوس، وقد يتذكر ما صدح به الشاعر الإسباني غارسيا لوركا قبل إعدامه بيد أنصار الطاغية فرانثيسكو فرانكو أيام الحرب الأهلية قبل تسعة عقود: « ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟. قولي كيف أستطيع أن أحبّـك إذا لم أكن حرًا؟، كيف أبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟.اضافة اعلان
فالظاهر أن موت إنسان، وهو ينشد حريته أثقل في ميزان الرأفة العالمية من كفة من كُتب عليه أن يحيى ما بقي من عمره المُرّ بلا ذاكرة تُذكر أو تتذكّر، مع أن أبجديات الإنسانية وقواميسها المجيدة ما فتئت تصدح كل حين وحنين: ما الإنسان دون ذاكرة أيتها الحياة؟.
صحيح أن الخروج من غيابات السجون يعدُّ ولادة جديدة لمتعقل لم يخطر في باله أن يرى قرص الشمس جهرة في بوح السماء من جديد. لكنها ولادة تشبه موتا مركباً إن كانت بلا ذاكرة كنا نملكها وتملكنا. بمثل هذا القول الممزوج شفقة وألماً استقبل بعض المعلقين خبر خروج عدد من المعتقلين وهم فاقدو ذاكرتهم. بل أن بعضهم قال إنه من الأرف بمن رزح في عذابات تلك القبور، وما نعرفه عنها، أن يعيش حياته المقبلة بلا ذاكرة لن تكفّ عن همزه وعضه بأظفارها وأسنانها الحمراء. فماذا ستفيد ذاكرة تميته في الموتة آلاف المرات، وبين المرة وأختها يتراءى له برزخ من سجون تلفها سجون. وصحيح أيضاً أن أهالي هؤلاء المعتقلين توقعوا أن يخرج أبناؤهم أشخاصًا آخرين مثقلين بعذابات جسدية ونفسية، لكنهم لم يتصوروهم أبداً بلا ذاكرة. هم ليسوا هم.
يرى طب الأمراض النفسية أن فقدان الذاكرة تحت وطأة الأزمات الجسدية أو العاطفية ينجم عن ألم كبير يضرب الدماغ. أي عندما يوضع الواحد في مأزق يغدو فيه غير قادر على تحمله؛ فإن آليات الدفاع النفسي تعمل جاهدة على حجب الذاكرة أو تغييبها. وكأنه يقول إن فقدان الذاكرة شكل من أشكال حماية الدماغ من ظلم السجون وما فيها من خوف وقهر واغتصاب وصدمات تبرّح الروح وتجرّحها. فعن أية حماية تتحدث أيها الطب العتيد.
لكن ما يحصل هو أن الطغاة وزبانيتهم الذين يُمعنون تنكيلاً وتعذيباً في المعتلين يريدون أن يحتلوا ذاكرة ضحاياهم، أو بالأحرى أن يصادروها كما صادروا أجسادهم وحياتهم وأحلامهم، بل ويريدون إدخال هذه الذاكرة في مساحة من العدم والسواد الطاغي الذي لن تكسره الألوان الأخرى. فالذاكرة هي ما يدلُّ علينا حين ندرج في أكفاننا، أو حين نصير أحاديث في ألسنة من بعدنا. ومن دونها نحن لن نكون نحن أبداً. هي بصمتنا على كوكبنا السيار. ولهذا تصبح الحرية، أو الولادة الجديدة المتمثلة في إطلاق السراح بلا قيمة إن كانت سترافقنا ذاكرة معطوبة أو معبأة بما أراده الجناة.
حين تُصادَر الذاكرة يغدو الواحد منا ملكا لمن صادرها. هو وحده سيكون قادرا على أن يحشوها بما يناسبه، وهذا بالضبط ما يريده السجانون عبر أزمنة طويلة من الطغيان والتجبر والقسوة عاشتها الإنسانية. الإنسان ميت حقيقي إن عاش بلا ذاكرة. الذاكرة هي الحرية والوطن، وما فيهما، ولا معنى لهما بدونها أيتها الحياة.
فالظاهر أن موت إنسان، وهو ينشد حريته أثقل في ميزان الرأفة العالمية من كفة من كُتب عليه أن يحيى ما بقي من عمره المُرّ بلا ذاكرة تُذكر أو تتذكّر، مع أن أبجديات الإنسانية وقواميسها المجيدة ما فتئت تصدح كل حين وحنين: ما الإنسان دون ذاكرة أيتها الحياة؟.
صحيح أن الخروج من غيابات السجون يعدُّ ولادة جديدة لمتعقل لم يخطر في باله أن يرى قرص الشمس جهرة في بوح السماء من جديد. لكنها ولادة تشبه موتا مركباً إن كانت بلا ذاكرة كنا نملكها وتملكنا. بمثل هذا القول الممزوج شفقة وألماً استقبل بعض المعلقين خبر خروج عدد من المعتقلين وهم فاقدو ذاكرتهم. بل أن بعضهم قال إنه من الأرف بمن رزح في عذابات تلك القبور، وما نعرفه عنها، أن يعيش حياته المقبلة بلا ذاكرة لن تكفّ عن همزه وعضه بأظفارها وأسنانها الحمراء. فماذا ستفيد ذاكرة تميته في الموتة آلاف المرات، وبين المرة وأختها يتراءى له برزخ من سجون تلفها سجون. وصحيح أيضاً أن أهالي هؤلاء المعتقلين توقعوا أن يخرج أبناؤهم أشخاصًا آخرين مثقلين بعذابات جسدية ونفسية، لكنهم لم يتصوروهم أبداً بلا ذاكرة. هم ليسوا هم.
يرى طب الأمراض النفسية أن فقدان الذاكرة تحت وطأة الأزمات الجسدية أو العاطفية ينجم عن ألم كبير يضرب الدماغ. أي عندما يوضع الواحد في مأزق يغدو فيه غير قادر على تحمله؛ فإن آليات الدفاع النفسي تعمل جاهدة على حجب الذاكرة أو تغييبها. وكأنه يقول إن فقدان الذاكرة شكل من أشكال حماية الدماغ من ظلم السجون وما فيها من خوف وقهر واغتصاب وصدمات تبرّح الروح وتجرّحها. فعن أية حماية تتحدث أيها الطب العتيد.
لكن ما يحصل هو أن الطغاة وزبانيتهم الذين يُمعنون تنكيلاً وتعذيباً في المعتلين يريدون أن يحتلوا ذاكرة ضحاياهم، أو بالأحرى أن يصادروها كما صادروا أجسادهم وحياتهم وأحلامهم، بل ويريدون إدخال هذه الذاكرة في مساحة من العدم والسواد الطاغي الذي لن تكسره الألوان الأخرى. فالذاكرة هي ما يدلُّ علينا حين ندرج في أكفاننا، أو حين نصير أحاديث في ألسنة من بعدنا. ومن دونها نحن لن نكون نحن أبداً. هي بصمتنا على كوكبنا السيار. ولهذا تصبح الحرية، أو الولادة الجديدة المتمثلة في إطلاق السراح بلا قيمة إن كانت سترافقنا ذاكرة معطوبة أو معبأة بما أراده الجناة.
حين تُصادَر الذاكرة يغدو الواحد منا ملكا لمن صادرها. هو وحده سيكون قادرا على أن يحشوها بما يناسبه، وهذا بالضبط ما يريده السجانون عبر أزمنة طويلة من الطغيان والتجبر والقسوة عاشتها الإنسانية. الإنسان ميت حقيقي إن عاش بلا ذاكرة. الذاكرة هي الحرية والوطن، وما فيهما، ولا معنى لهما بدونها أيتها الحياة.
-
أخبار متعلقة
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (2-2) عبدالجبار أبو غربية نموذجاً ومُلهِماً !!
-
النمو الاقتصادي السعودي وفي الخليج العربي
-
اتهامات للأميريكيين في عمان
-
نحنحة
-
أسرى لكن برغبتهم ..!!.
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (1 - 2) هشام عودة نموذجاً وملهِماً !!
-
إلى متى ستحتمل الضفة الغربية؟
-
اليوم عيدُ ميلادي