الإثنين، 18-05-2020
04:52 م
حين كان يهل علينا من بعيد..، كانت الحارة تستقبله استقبال « الفاتحين «.
كانت النساء يتقافزن من بيت إلى بيت برشاقة غير معهودة ، وكانت المحظوظة التي يتوقف عند بيتها.. فتكون اول « المكتشفين « لما معه.
كان رجلا في السبعين.. يرتدي( قمبازا ) مقلّما والحطّة البيضاء وبين ذراعيه « سلّتان كبيرتان « تحتويان على كل ما تطلبه النساء والصبايا من « خراخيش « تُسمّى بلغة اليوم « اكسسوارات « وتضم : خواتم وملاقط حواجب وكُحلة وعلكة « عربية « او علكة بطُم وشالات وبُكَل وحومرة خدود وامشاط من العَظم بحجم الكفّ وكريم عرايس وازرار ودبابيس وكريم ليمون وفازلين وبشاكير ومحارم قماش للرجال وعلى « نشوق» لفتح المناخير و» حِنّة « و زجاجات عطر رخيص وغيرها وغيرها.
كانت النساء يتباهين بما اشترينه من « أغراض « خاصة ويتبادلن « الغمزات والهمسات « مصحوبة بعضها ب « طرقعة « اللبان « العلكة العربية / البُطُم «.
كنتُ وقتها ، طفلا صغيرا ، أندسُّ « بين نساء الحارة.. دايما باحب أندسّ - مثل قِطّ صغير وأشاهد الحوار بينهن وبين « ابو الخراخيش « ، الذي لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي. ولا كنا نعرف أين يسكن.
كان يأتي مرّة في الاسبوع يحمله سلّته او سلّتيه وما أوصت به نساء الحارة والحالات المجاورة.
كان يمشي بخطوات متثاقلة وكأنه « بطّة « او « اوزّة « كبيرة..
ومن أبرز صفاته ومزايا ، انه كان مُؤتمنا على أسرار النساء.. يحفظ أسرارهنّ ( التي تبحث عن دواء للحبَل او حجاب كي لا يتزوج عليها زوجها )، ولا يبوح بها لأحد بما سمع.. وكانت « بضاعته « تُباع ب « قروش « قليلة.
كان « ابو الخراخيش « يطوف بسلّتيه الضخمتين ويقطع مسافات طويلة معتمدا على قدميه المتينتين.
وكلما كنتُ ادسّ رأسي كي أستمع لما يدور بينه وبين النساء ، كان الرّجلُ ينهرني.. ويرعبني بنظراته.
ومثل ابطال الروايات والأساطير، جاء الرجل غامضا واختفى بمثل ما جاء.
كل ما تبقّى منه « صورة « سلّتيه الكبيرتين وحكايات قديمة بقيت كما اسرار النساء .. في بئر عميقة .