قبل نحو شهرين، كتبت عن أن أخطر ما يمكن أن يواجه السياحة الأردنية في مرحلة كورونا وما بعدها، هو عدم إدراك أصحاب المنشآت أهمية تحفيز السياح من الأردن ومن خارجه عبر برامج ترفيهية وإقامة فندقية، بعروض منافسة ومناسبة جدا للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها دول العالم كله.
وقتها، كنت آمل أن تكون الدولة والقطاع أكثر ذكاء في التعامل مع هذا الملف، لما له من أهمية بالغة في رفد الاقتصاد الأردني الذي يعاني جراء الجائحة، وأن يتم منح السياح تسهيلات لدخول الدولة التي تحيط بها دول قادرة بسهولة على الفوز بهؤلاء، خصوصا مصر وتركيا. لكن، يبدو أنه ما من أحد يخطط بشكل سليم، فالسياح الروس الذين كانوا يشكلون نسبة مرتفعة من عدد القادمين إلى الأردن، هربوا من العقبة، وبحثوا عن بديل أكثر ملاءمة لميزانياتهم، وقد وجدوه بسهولة في الدول المجاورة التي تعرف كيف تضع خططها الواضحة للفوز بهم.
لا شك أنها صفعة قاسية لقطاع السياحة أن يخسر هذا العدد الكبير من السياح، ولو بحثنا عن الأسباب لأشرنا بوضوح إلى القطاع والحكومة معا، فهم من يتحملون هذا الوزر، فالفنادق ما تزال تعمد إلى رفع أسعار الغرف الفندقية، فيما تصر الحكومة على إجراءات مشددة في التعامل مع القادمين من الخارج كسياح، وأيضا فهي تنتهج سياسات مالية تؤدي إلى رفع الكلف التشغيلية على قطاع السياحة. في بعض الأحيان، يكون المواطن الأردني أمام خيارين؛ فإما دفع نحو 200 دينار عن الليلة الواحدة في فندق لإقامة عطلة نهاية الأسبوع، أو ركوب الطائرة إلى شرم الشيخ وتركيا حيث يستطيع أن يمكث هناك نحو خمسة أيام بـ400 دينار (طيران، وإقامة، وإفطار، ورحلات داخلية). في ظل هذا الوضع، أي عاقل سيذهب إلى العقبة؟
السياح الروس تقدموا بشكاوى عديدة من ارتفاع الأسعار في العقبة وتكبدهم نفقات إضافية لم يضعوها في حساباتهم، وحين رأوا أن الجهات المختصة لم تقدم لهم أي حلول، أوقفوا مجيئهم للعقبة، وحولوا وجهتهم لدول أخرى أكثر تنافسية منا. يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة العقلية التي تدير المشهد السياحي في الأردن، فمدينة مثل العقبة بلا برامج ولا نشاطات جاذبة للسياح، بينما حتى اليوم نفشل في معرفة أسباب إخفاقاتنا، وأسباب نجاح الدول الأخرى التي وفرت للسائح الأجنبي كل ما يريده. ألم ندرس تجارب هؤلاء من أجل الاستفادة منها، ومن هو المسؤول عن خسارة عملة أجنبية كان يتوجب أن تحط رحالها في أسواقنا؟
حتى اليوم، نحن لا نحسن سوى الاتهامات المتبادلة وتقاذف المسؤولية بين بعضنا بعضا، فأصحاب المنشآت السياحية يحملون الحكومة المسؤولية، والأخيرة تتوارى خلف تصريحاتها بأنها قدمت دعما قيمته 60 دولارا عن كل سائح لكي تنعش القطاع، وما بين الفريقين يبقى البلد واقتصاده خاسرا كبيرا، في الوقت الذي نشهد فيه احتضارا مؤلما لقطاعات عديدة كانت تتغذى على السياحة.
لا يمكن لنا أن نظل مصرين على خداع النفس بشعارات جذب السياح، فحين نتحدث في هذا الأمر ينبغي أن يتم طرح سياسات وإجراءات واضحة وحقيقية، لا مجرد تصريحات رسمية للاستهلاك المحلي. حادثة هروب السياح الروس من المملكة ينبغي ألا تمر بسهولة، بل يتوجب وضع الخطط العاجلة لاستهداف هؤلاء السياح، وإعادتهم من جديد إلينا.
الضرر ليس بسيطا، ولا يقتصر على السياح الروس، فالعالم كله سمع بهروبهم إلى دول أخرى، والعالم كله بات مدركا اليوم أن من الصعوبة زيارة الأردن جراء أسعارها المرتفعة وإجراءاتها المشددة، وشركات السياحة ستواصل نزيف الألم لعدم قدرتها على الجذب والمنافسة، ومن خلفها قطاعات عديدة. ما نرتكبه بحق البلد خطيئة كبرى لا يمكن احتمالها.