على مدى عمر اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ذهب النقاش العام لمساحات إيجابية بناءة، وبتنا نتحاور ونتجادل حول عناوين سياسية كبرى، ترتبط بمستقبلنا السياسي وتعزيز أجوائنا الديمقراطية، وانخرطنا وطنيا بورشة نقاش إصلاحية، هيأت لها مداولات ومخرجات لجنة التحديث، التي شهد لها الجميع أنها خطوة وطنية إصلاحية متقدمة في الاتجاه الصحيح.
وبعد أن رفعت اللجنة توصياتها لجلالة الملك، وأرسلتها الحكومة لمجلس النواب، لتسير بأطرها التشريعية بحسب الدستور، تراجع الحديث عن توصيات اللجنة، وغابت العناوين الإيجابية التي كنا نتحاور حولها، لتعود مرة أخرى أجواء سلبية لها مروجوها ونافخوها، ومستفيدون منها.
عاد نفر منا، من قوى سياسية معروفة، يمارس صنعته الأساسية ببث الإحباط والسواد، مدعوما بتغلغل الشعبوية في الفضاء العام، وتسلل الشعبوية لبعض المساحات الرسمية، وبتمدد ظاهرة أن الخطاب السلبي لا يجد من يرد عليه أو يحاججه، فبات يسرح ويمرح، ويصبح حقيقة، لأنه لا وجود لخطاب غيره أمام الناس.
الأخطر من ذلك كله، الحساسية الرسمية المفرطة أمام ما يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي، فغذت تلك الحساسية، من حيث تدري أو لا تدري، السلبية التي تجتاح فضاءنا الرقمي، لا بل وزادت من حدتها ووتيرتها، بعد أن وجد استعراضيو السوشال ميديا أنهم بخطابهم السلبي يؤثرون بالفعل بالقرار الرسمي، الذي غدا في الآونة القصيرة الماضية انبطاحيا بشكل لا يتصوره العقل، ومعاكس لكل تاريخ الدولة الأردنية، التي كان دوما إحدى أهم ميزاتها العقلانية والبراغماتية والتوازن، والابتعاد عن الشعبوية والعاطفة باتخاذ القرار.
انظروا ماذا حل بنا في نقاش اتفاقية الماء مقابل الكهرباء، أو في مسألة مجلس الأمن الوطني؟ غياب كامل للحجة المقابلة التي فيها من القوة والإيجابية الكثير، فتحولت هذه القرارات لمساحات نقاش سلبية بدل أن يكون العكس تماما هو الحال.
لا بد من مواجهة مباشرة مع مروجي الخطاب السلبي، مواجهة شجاعة علمية ومدروسة، كتلك التي سبق وأن خضناها عبر تاريخنا ونجحنا بها، تسمي التحديات بأسمائها الحقيقية، ومن أهم التحديات في هذه المرحلة تحدي بث السلبية والإحباط، وغياب مواجهة ذلك وطنيا، وسواد الشعبوية عند المعارضة وفي بعض المساحات الرسمية، وحساسية الرسميين المفرطة لما يكتب على السوشال ميديا.
هذا تحد كبير وحقيقي، وعلينا أن نمتلك تصورا وطنيا رسميا وأهليا للتغلب عليه، وإلا فإن تكلفة استمراره ونجاحه ستكون وخيمة.
دول أخرى تواجه هذا التحدي، فلسنا وحيدين بذلك، لكن الأردن كان عبر تاريخه الأكثر قوة وقدرة على الحفاظ على سياسات وتوجهات تعلي المصلحة العامة بصرف النظر عن العاطفة أو الشعبوية المرتبطة بها، وتدرك القيم السياسية الأردنية أن الأوطان لا تبنى بالشعارات ولا بالشعبويات، بل باتخاذ القرار الصحيح المسؤول الذي ينجي البلد ويحقق مصالح الناس.
هذا هو الأردن عبر تاريخه، فما بالنا نفرط بهذه القيمة الوطنية العظيمة والتاريخية، التي جعلت الأردن أسطورة سياسية في الشرق الأوسط الذي أغرق كل أصحاب الشعارات والهتافات.