ناقلات النفط الإيرانية المعبأة بالنفط ومشتقاته و»بتروكيماوياته»، تجوب البحار والمحيطات وتعبر المضائق والممرات المائية الاستراتيجية صوب وجهتيها: فنزويلا والصين، ضاربة عرض الحائط بالعقوبات الأمريكية المفروضة عليها وعلى الدول المستهدفة، في تحدٍ استعراضي غير مسبوق، لهيبة الدولة الأعظم، ودون أن يصدر عن إدارة الرئيس المتبجح بالحزم والعزم، أي رد فعل يذكر حتى الآن على الأقل، فما هي الحكاية؟
من المنظور الإيراني، يندرج قرار تسيير الناقلات في سياقين متلازمين: الأول؛ إصرار طهران على كسر الحظر واختراق العقوبات، مهما كلف الأمر، ورفضها سياسة الموت البطيء أو الموت جوعاً، التي تتبعها واشنطن حيالها تحت مسمى «الضغوط القصوى»... والثاني؛ اقتناع طهران بأن دونالد ترامب الغارق في فشله في إدارة ملف جائحة كورونا وأزمة الركود الاقتصادي وأرقام البطالة غير المسبوقة منذ 90 عاماً، يبدو على مبعدة بضعة أشهر من الانتخابات الرئاسية كما لو أنه «بطة عرجاء» لا قدرة له على الاتيان بأي حركة جدية... هي مغامرة إيران بلا شك، بيد أنها مغامرة من النوع المحسوب، تأتي استمراراً لعمليات التعرض الإيراني لبعض الناقلات في مياه الخليج وبحر عمان، وقصف منشآت أرامكو في خريص وبقيق.
من المنظور الأمريكي، يبدو أن إدارة ترامب تخشى تداعيات ضرب الناقلات أو احتجازها، سيما وأن طهران بعثت برسائل واضحة: سنرد بالمثل على أي عمل من هذا النوع... وهي سبق لها أن أتبعت الأقوال بالأفعال عندما أقدمت على احتجاز سفينتين بريطانيتين رداً على احتجاز لندن لسفينة إيرانية كانت متجهة إلى ميناء طرطوس السوري عند مضيق جبل طارق... يومها، كُسرت الهيبة البريطانية، واضطرت لندن للتراجع، وواصلت الناقلة الإيرانية طريقها صوب الشاطئ السوري.
لا يهم إيران أن تصل سياسة التصعيد مع واشنطن «حافة الهاوية»، بل ربما هذا ما تريده بالضبط، وربما لهذا السبب اختارت لناقلاتها المتجهة إلى الكاريبي طريقاً محفوفاً بأصدقاء أمريكا وومفخخاً بأساطيلها وقواعدها: من هرمز، مروراً ببحر عمان وبحر العرب فباب المندب والأحمر وقناة السويس وجبل طارق قبل أن تمخر عباب الأطلسي، فإن هي أفلتت من فعلها المتحدي من دون رد فعل أمريكي، أطلقت صيحات النصر، وإن دخلت العلاقة بين البلدين في دائرة الأفعال وردود الأفعال المتبادلة، كان ذلك مدخلاً للبحث عن «مخارج»، وربما تحسيناً لشروط مفاوضات جديدة للخروج من استعصاء العقوبات والحصار الجائر المضروب عليها... إيران مستعدة للتصعيد، وراغبة فيها، طالما أن استمرار الحال من المُحال.
الكرة الآن في ملعب واشنطن، إذ لا يمكن القول إن إدارة ترامب استنفذت جميع خياراتها، وقررت الإشاحة بنظرها عن التحدي الإيراني، فالباب ما زال مفتوحاً لخطوة أمريكية «عقابية»، إن لم تُستهدف الناقلات في طريق الذهاب فقد تستهدفها في طريق الإياب... لكن أغلب الترجيحات تقول إن واشنطن ليست بوارد الدخول في دوامة من هذا النوع، سيما وأن لدى الرئيس جدول معارك وحروب لا تنقطع: من الصين إلى فنزويلا، مروراً بـ»كورونا» والإعلام والديمقراطيين، و»تويتر» مؤخراً.
إن مر التحدي الإيراني من دون استجابة أمريكية من نفس النوع والمقدار، فسيشجع ذلك طهران أولاً، على تكرار التحدي وتسيير المزيد من الناقلات والطائرات، كما أن أطرافاً أخرى، خاضعة للعقوبات الأمريكية، ونصف البشرية تخضع لأشكال متفاوتة من هذه العقوبات، ستتشجع ثانياً، على فعل شيء مشابه... بمعنى من المعاني، فإن «هيبة» واشنطن على المحك، وعلى المحك أيضاً، قدرة الدولة الأعظم على إنفاذ عقوباتها الخاصة بقوة الحديد والنار.