الإثنين، 08-03-2021
04:08 م
من مادبا الى السواحل السورية، ومنها سافر فرج بالباخرة الى أمريكا اللاتينية، في الأربعينيات من القرن المنصرم، انقطعت أخباره عن الأهل، لا خبر لا (تشفيّه) لا حامض حلو لا شربات، حتى اعتقد الجميع أنه مات في بلاد الغربة.
في واحدة من السنين الماحلة، التي غزا فيها الجراد المنطقة، وصل الغائب بعد عقود الى بيت أهله، وكان يحمل صندوقا خشبيا متوسط الحجم مغلق بثلاثة اقفال نحاسية تتدلى من أطرافه بكل أبهة.
استقبله الوالد والإخوة بفرح شديد، فقد جاء الفرج مع فرج، وكانوا يسمعون الخرخشة عندما ينقل فرج الصندوق من مكان الى آخر ن فيحلمون بالذهب الذي سيطعمهم اللحم والعسل. بالمناسبة كان فرج لا يترك صندوقه قط، بل كان يحمله معه أينما ذهب، حتى لو دخل الى بيت الخلاء، كان يأخذ الصندوق معه.
انتشر الخبر في البلدة: جاء فرج ومعه الفرج. وعلى عادة اهل القرى والمدن الصغيرة، فقد صاروا يقيمون له المآدب، لعله يتذكرهم بالخير حينما يفتح صندوقه المثلث الأقفال. ولم يكن فرج يرفض أي عزومة. أكل وشرب في بيت المختار مرورا ببيوت القرية كلها، حتى أضعفهم حالا ذبح دجاجته الوحيدة وأولم لفرج العائد من الغربة بصندوق مثلث الأقفال.
بعد أن قامت كامل القرية بواجباتها تجاه فرج انتظروا حفل الافتتاح، لكن فرجا لم يكن بالوارد، بل كان يجلس مرتاحا على صندوقه الخشبي الممهور بالأقفال الثلاثة. وقد حاول والده وأخوته اقناعه بفتح الصندوق، فقد أكلت الناس وجوههم، لكنه رفض بكل إباء وسؤدد.
بدون أي تنسيق، وبعد أن طفح الكيل، وبينما الناس يجلسون في بيت والد فرج، يتحدثون حول أحوالهم السيئة وضيق ذات اليد عند الجميع وانقطاع الغيث، كان فرج يجلس معهم فوق صندوقه بكل فرح وسعادة.
بدون اي تنسيق هجم أولا والد فرج على الصندوق، وتبعه إخوته ثم أهالي القرية المتواجدين، حاول فرج المقاومة، لكنه لم يستطع شيئا أمام هذا الشلال البشري الجائع.
وقف فرج بعيدا، بينما قام الشلال البشري يكسر الأقفال، وفتح الصندوق عنوة. نظر الجميع الى داخل الصندوق فعرفوا سر الخشخشة والطرطقة ...كان في الصندوق عدة قصارة (مالج، مسطرين، متر، ميزان، خيط).
نظروا الى حيث يقف فرج مدندل الرأس، نادوه إليهم، جاء مهزوما، وقال لهم بأن الحياة كانت صعبة عليه في بلاد الغربة، ولم يستطع أن يجمع قرشا واحدا، لكنه تعلم القصارة ومهر فيها.
وهكذا قضى فرج بقية العام وهو يقصر أبيار (جمع بئر باللهجة الدارجة) أهل القرية وبيوتهم مجانا، بانتظار عام جديد أكثر خيرا.
(من كتابي الجديد «البالون رقم10»)