في ظرف جيوسياسي حافل يسود منطقتنا، يصبح اجترار الأحداث السياسية الكبرى ضالة بعض الباحثين عن اصطفافات وتحالفات سياسية ما، فيقدمون تحليلات «تيك أوي» حول الأحداث التاريخية الفاصلة في حياة الشعوب، ومن ضمن هذه التحليلات الـ»تجارية»، استمعت بل شاهدت فيديو تم تحضيره على الطريقة الوثائقية، الغارقة بالمغالطات والتوظيفات الخبيثة.. لست مؤرخا ولا باحثا في التأريخ، لكنني مواطن عربي أردني، يتابع الى حد ما قضايا العرب السياسية، وإخفاقاتهم، ولعل الظروف الحالية تشبه وإلى حد بعيد، تلك الظروف التي كانت سببا في انطلاق الثورة العربية، للتحرر من التبعية والفساد وانهيار القيم العامة، وفقدان السيادة على القرار.
كان المرحوم الشريف حسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، ومحورها الذي دار حوله الحدث، يمتاز بصفات جعلته متفوقا على غيره من الشخصيات السياسية المؤهلة لقيادة العرب وتحريرهم من التبعية لجمعية الاتحاد والترقي، التي كانت تستغل «الخلافة» الضعيفة، وتنشر الفساد وتثير المشاكل في جسد الأمة العربية تحديدا، وتدعو لمزيد من التتريك وضياع الهويتين الإسلامية والعربية، ولدينا اليوم أكثر من جهة سياسية، دولية، أو إسلامية ، أو عربية، كلها تحاول فرض أجندتها السياسية التي لا تختلف كثيرا عن أجندة جمعية الاتحاد والترقي قبل أكثر من 100 عام، وكان الحكم الفعلي لهذه الجمعية وليس للمرحوم السلطان عبدالحميد «الخليفة»، وكان الوضع الجيوسياسي مفعما بالعمالة والبحث عن الذات وتقديم الأجندات، وكان الشريف حسين حتى بالنسبة للسلطان عبدالحميد يشكل رمز وفاق للأمة، لجأ إليه السلطان العثماني بعد شعوره بالضعف أمام الاتحاد والترقي وأمام التدخلات الأجنبية، في زمن كان الكوكب فيه يتهيأ لحرب عالمية، وهي بيئة خصبة للتآمر والعمالة والاتفاقيات السياسية الفئوية، وهذا ما أجادت بريطانيا العبث والمناورة به.
اليوم؛ نعيش ظرفا سياسيا دوليا مماثلا لما كان عليه العالم قبل الحرب العالمية الأولى، وإلى حد بعيد اختفى دور الحكومات الوطنية، وأصبح القرار الوطني في دول كثير غائبا، بل إن القرار السيادي في شؤون وطنية مهمة في أغلب دولنا ودول العالم الثالث مستحيلا، وذلك ليس لكثرة الاتفاقيات الدولية التي تنخرط فيها الحكومات، بل أيضا بسبب ضعف الحالة الاقتصادية وكثرة التهديدات الأمنية والسياسية التي تتعرض لها هذه الدول، فأغلب الدول ترى نفسها ضعيفة خارج التحالفات الدولية، وفيها قوى سياسية كثيرة، مستعدة لإبرام الصفقات الخارجية المشبوهة والقانونية، على حد سواء، وقد عشنا ظروفا سياسية شاهدنا خلالها كيف تخرج من العدم قوى سياسية، تنال الدعم الدولي، وتسيطر على الحكم في بلدانها، وتطيح بأنظمة، أو تفتك بها الحروب الأهلية وتصبح من دول العصر الحجري، ولعلنا في الأردن استبقنا تفاقم بعض المخططات الشبيهة، وتغلبنا عليها وقمنا بتحييد خطرها مسبقا.
كان الشريف حسين بن علي في موقع مسؤولية كبير، فهو حتى في نظر السلطان عبدالحميد كان يشكل المنقذ للأمتين، وكان مخلصا للقيم العربية والإسلامية، مهموما بتخليص الأمة العربية من الحكم الضعيف ومن براثن ومكائد الاتحاد والترقي، ومن طموحات القوى السياسية الصاعدة التي كانت بالفعل قد شقت طريقها وأبرمت صفقات سياسية مع بريطانيا ومحورها.
لم يتراجع الشريف حسين عن مبادئه وقناعاته لتحرير الأمة، وتشبث تماما بميلاد دولة عربية كبيرة، بعد سقوط الدولة العثمانية بفعل الفساد والمؤامرات التي كانت تقودها جمعية الاتحاد والترقي، وبعد أن نجحت الثورة العربية الكبرى بإنهاء الحكم العثماني، بدأت بريطانيا بالوفاء بعهودها واتفاقياتها، لكن ليس مع الشريف حسين الذي قاتل من أجل استقلال العرب، بل إن بريطانيا اقتنعت بتنفيذ اتفاقياتها مع القوى الأخرى، وذلك مع كل أسف على حساب العرب، وعلى حساب الدولة العربية الهاشمية الكبرى، ليتفاجأ العالم والعرب والشريف الحسين، بوعد بلفور وباتفاقية سايكس – بيكو، وقد ناضل الشريف من جديد، لكن نضالا سياسيا هذه المرة، من أجل فلسطين ومن أجل سوريا والعراق والاردن، لكن كانت دول الاستعمار الامبريالية قد تقاسمت المنطقة، ونصبت نفسها قوى انتداب لهذه الدول، مكثت دهرا تحت هذا الاستعمار الجديد، حتى تحررت أخيرا.
أكبر دليل على ثبات الشريف على مبادئه وقناعاته، وعدم انصياعه للإملاءات والأطماع الأوروبية، هي معاملتهم له بعد نجاحه في طرد المحتل العثماني، حيث انقلبت بريطانيا وأوروبا ضده، وقامت بنفيه، وهذا موقف يذكره التاريخ، وهو الشهادة على سلامة موقف المرحوم الشريف حسين.
هذه حقائق، وفوق ذلك هي قناعات أردنية، لا تتزعزع، ونذكرها الآن ليس فقط بسبب «التشويش» البائس التي تقوم به جهات ما، بل أيضا لأن ظروف اليوم تشبه ظروف الأمس، ويجب أن يفهم العرب حدود مناورتهم السياسية في عالم يتحفز لاصطفافات وتحالفات وربما حروب كبيرة، ليس للمهزوم فيها من نصيب أو وجود.