بحجة “حماية المجتمع” من أخطاء العاملين في الصحافة والإعلام، استبسلت الحكومات المتعاقبة بإصدار وتطبيق ما يلزم من قوانين (12 قانونا ناظما للإعلام)، فأحكمت قبضتها على أصحاب المهنة، قلنا: لا بأس، حماية المجتمع والدولة اهم من الحريات الصحفية، ومن رغيف الصحفيين أيضا.
لكن ماذا عن حماية أرواح الناس وصحتهم من أخطاء بعض العاملين في مهنة “الطبابة” ومن تراجع الخدمات الصحية؟ ألا يستدعي ذلك تفعيل قانون المسؤولية الطبية، وضبط فوضى “الأسعار والإجراءات والتهرب الضريبي في القطاع الطبي الخاص، والأهم إعادة تأهيل “الطبابة” الحكومية، وتوسيع شبكتها وإصلاح مرافقها، لتتمكن من تقديم أفضل خدمة للمواطنين؟
في عام 2018 تم اصدار قانون “المسؤولية الطبية والصحية”، كان يفترض – بالطبع – ان يحقق هذا القانون الموازنة بين حقوق المرضى وبين حماية ممارسي العمل الطبي، لكن ما حصل أن القانون أودع في أدراج وزارة الصحة، ولم يطبق بسبب تعطيل المرتكزات الأساسية فيه (المواد 6، 9، 17)، كما ذكر أحد أعضاء اللجنة الفنية العليا للأخطاء الطبية (د. مؤمن الحديدي) في استقالته من اللجنة قبل نحو أربعة اشهر. ما دام القانون معطلا، اذن لا توجد مساءلة طبية، هذا يكفي للتذكير بأن ضحايا الأخطاء الطبية لن يجدوا ظهيرا ينصفهم ويعوضهم إلا ما تقرره لجان التحقيق الإدارية، أو ما يمكن ان تفرزه المداولات في المحاكم بعد وقت طويل (لا تسأل عن النظام التـأديبي في النقابة). المسألة هنا لا تتعلق باستدعاء حادثتين – على الأقل- شهدناهما هذا الأسبوع، وذهب ضحيتهما امرأة وطفلة صغيرة، وإنما تتجاوز ذلك وفق بعض الاحصائيات التي تشير إلى تكرار وتصاعد مثل هذه الأخطاء خلال السنوات الماضية. فتح ملف “الطبابة” في بلادنا أصبح واجبا، سواء أكان في القطاع الخاص او العام او النقابة، هذه الجهات الثلاث – على اختلاف حدود مسؤولياتها– تحتاج إلى اصلاح للحفاظ على سمعة الصحة في بلدنا، وتطمين المواطنين على صحتهم وسلامتهم. لا يخطر في بالي – هنا– ان “أقيم” أداء الأطباء او ان أنتقص من جهودهم وإنجازاتهم، فأنا أدرك ان اغلبية العاملين في هذه المهنة من أفضل الكفاءات وهم يقومون بواجبهم ويستحقون التقدير والاحترام، لكن لدينا أخطاء يجب ان نعترف بها ونواجهها بحلول قانونية وإدارية، سواء أكانت بسبب تقصيرنا في تأهيل الأطباء الجدد ورقابتهم، أم بسبب عدم توفر “البنى” الصحية القادرة على استيعاب الاعداد الكبيرة للمرضى في مستشفياتنا الحكومية.
في هذا الإطار “الإصلاحي” يمكن ان نشير إلى أكثر من مسألة، الأولى تتعلق بتعديل لائحة أجور الأطباء، حدث ذلك قبل ثلاثة أعوام حين احتجت النقابات على مشروع قانون ضريبة الدخل، فأبرمت الحكومة – آنذاك- مع نقابة الأطباء صفقة التعديل، ودفع المواطن، ثمنها، وما يزال، بعدها رفضت النقابة نظام “الفوترة”، وبذلك حرم المواطن من وجود ضابط للتسعيرة، كما حرمت الخزينة من إيرادات “التهرب الضريبي” التي تقدر بعشرات الملايين. مسألة أخرى، تعطيل نظام صندوق التعاون للأطباء والتعويض عن الأخطاء الطبية، وهو مقرر بموجب قانون المسؤولية الطبية مادة 17) ألحق ضررا بالمرضى والأطباء على حد سواء، فبدل ان يعطى المريض المؤمن حقه في اختيار طبيبه – حسب نظام الصندوق– وكذلك الأطباء نصيبهم من شركات التأمين، وقع الطرفان ضحية للاحتكار القائم بين بعض الأطباء وشركات التأمين، وهذا الملف ما يزال معلقا برسم النقابة.
تبقى ملفات أخرى مهمة، تتعلق بواقع “الطبابة” في القطاع العام، سواء على صعيد ندرة التخصصات، او تواضع الخدمات مع اكتظاظ المراجعين وما يترتب على ذلك من عبء على الأطباء، او على صعيد الاعتداءات على الأطباء (نحو 30 اعتداء سنويا)، او تواضع حصة ” الصحة” من الموازنة العامة، كل هذه الملفات وغيرها يستدعي من الحكومة فتح ملف الطبابة والاجابة عن ازماتها ومشكلاتها بحلول سريعة، وجادة أيضا.