في العمل العام بالمجمل، وفي عالم السياسة على وجه الخصوص، يكاد الاتفاق المطلق أو الإجماع على القرارات والسياسات يكون ضربا من المستحيل. نادرا لأي شعب أن يجمع بالمطلق على شيء، لذلك فغالبا ما يتم إقرار السياسات والتوجهات العامة على طريقة الأغلبية البسيطة أو التوافق، ولكن ليس الإجماع الذي يعني أن “الكافة” سيكون لها الرأي نفسه. التوافق يتحقق عندما تقرر أغلبية تقدر بين 70 و80 بالمائة على شيء وطني ما، فإن لم يتسنّ ذلك، فالأغلبية البسيطة تفرض رأيها بطرق ديمقراطية وعلى طريقة 50 بالمائة +1.
نستحضر هذه البديهيات السياسية، ولجنة التحديث للمنظومة السياسية على وشك أن تنهي أعمالها، وهي حتما وحكما ستكون أمام مفاصل لا شك ستتباين الآراء حولها، ولذا، فلا بد أن يتلاقى فيها الأعضاء على توافقات تشكل نقطة في المنتصف بين التباينات السياسية والإيديولوجية كافة. هذا أمر مفصلي في لجنة كانت إحدى أهم ميزاتها تنوعها الكبير إيديولوجيا وجغرافيا وديموغرافيا، تعاملت مع قضايا سياسية استراتيجية غاية في العمق والأهمية والحساسية، ومخرجاتها يراد لها أن تكون أحد أهم بواكير انطلاق الأردن نحو مئويته الثانية بعزم وثبات، وروحية الآباء والأجداد بالبناء وتحدي الصعاب وتشييد وطن أردني عظيم، كان وما يزال أيقونة الشرق الأوسط في قدرته على ترسيخ الاستقرار، واجتراح منظومة قيم وطنية مجتمعية شكلت ضمانة لتقدمه وتألقه. ما حدث من نقاشات وتداولات في لجنة التحديث، وما سيحدث من توافقات في الأيام المقبلة، تاريخي بكل معنى الكلمة، لن يقف عند حدود اللجنة وانتهاء أعمالها، بل سيستمر ليعرف النقاش الوطني الجمعي. أعمال اللجنة كانت تمرينا بالذخيرة الحية، للمشارب السياسية كافة، لكي تتفاعل -تختلف وتتفق- مع أطياف الألوان السياسية كافة في المجتمع، ترى نفسها جزءا من كل، تتعلم أن لا تحتكر الحقيقة، وتدرك أن جوهر العمل السياسي، وأس التطور الديمقراطي، التوافق والتنازل والالتقاء في المنتصف، وأن التنافس والتباين والتعددية خير للمجتمع، وضمانة التقدم والنماء.
ثمة فئة من المجتمع الأردني ترى أن التحديث غير ضروري سيغير المعادلات وينتقص من المكتسبات. هذا طبيعي ومتوقع، لكن ما يجب أن يعرفه “الكافة”، أن التطور والتحديث لا يمكن بحال أن يمسا قيم الأردن السياسية، وأن معادلاتهما الناظمة أكبر من أي لجنة لتغيرهما، ولهذا جاء الطرح بالتحديث والتطوير وليس التغيير والثورة. التحديث ينجز بضمانات صلبة راسخة تحفظ منظومة القيم وتحميها، وتحافظ على مسار البلد الاستراتيجي لكي يبقى بيد العرش الحامي للمجتمع والحارس للدستور، ويترسخ ذلك أكثر في أن عددا من مؤسسات الدولة ومداميك البناء الوطني ستبقى بمنأى عن السياسة وفوقها، تكون للأردنيين كافة بصرف النظر عن أحزابهم ومشاربهم.
لجنة التحديث وما صاحبها من نقاشات وتفاعل مجتمعي، شأن وطني إيجابي خيّر، يؤمل بأن تكون نقطة البداية وليس النهاية لعملية تحديث مستمرة، تعد ضرورة وطنية متسقة مع تاريخ الأردن الذي أعلى دوما قيم النماء والتحديث.