“بعد كورونا” أصبح هو التعبير الدارج، والأصح أن يكون “مع كورونا” لأن غالبية الخبراء تعتقد أن الفيروس سيرافقنا في الأيام المقبلة والموجة الحالية قد تنحسر في الصيف لترجع في موجة جديدة على غرار الإنفلونزا الموسمية ومختلف السيناريوهات هي فرضيات رياضية، وعلى كل حال لن يكون واقعيا استمرار الحظر التام للوصول إلى صفر حالات، فهذا لا يدوم كما أظهرت تجربتنا في الأردن، ويصبح الخط المنطقي هو العودة إلى الأعمال مع إبقاء إجراءات احترازية مثل التباعد الاجتماعي والاستمرار في منع التجمعات الكبيرة لتقليل انتشار الوباء وهكذا إلى حين ظهور علاجات ولقاحات فعالة ثم يكون لكل حادث حديث. وهذا معناه أن نرسم نمطا من العيش والتعايش مع كورونا للمرحلة المقبلة.
بعض أنماط التكيف كما يرى الخبراء ستدوم معنا وتصبح مطلوبة لذاتها بسبب ملاءمتها وفعاليتها بغض النظر عن الوباء، وأول المؤشرات جاءت من شركة تويتر منصة التواصل البارزة بإعلانها نجاح أسلوب العمل من البيت لموظفيها وأنها ستعتمد هذا الأسلوب بصورة دائمة. ولعل ذلك سيشمل نسبة كبيرة من الموظفين، وثمة منطق لافتراض أن ذلك سيعمم على مختلف المؤسسات والشركات وعلى الأقل لكل وظيفة لا تتطلب حضورا جسديا لصاحبها ما دام يمكن إنجازها على الشبكة.
لنسرح بتفكيرنا مع كل شيء فرض نفسه في ظلّ الجائحة اضطراريا ويمكن أن يستمر معها وبعدها اختياريا لأنه عملي وواقعي وقابل للاستدامة. لنأخذ التعليم عن بعد. قد تتحول وظيفة المدرسة ميدانيا إلى الدروس والأنشطة اللامنهجية والتدريبات العملية وترك المواد النظرية للوسائل الإلكترونية التي مدحها الطلبة وأظهرت إمكانية إعطاء الطلبة بصورة متساوية أفضل أساليب التدريس على يد أفضل الأساتذة، وهذا يعني تقليص الدوام إلى نصف نهار وربما بالتناوب يوما بعد يوم لتقليل كلف النقل وإنهاء الاكتظاظ بتقليل العدد في الصفوف إلى النصف وقد تتقلص الحاجة لأساتذة المواد النظرية وإعادة تأهيلهم لأدوار تربوية تنموية ضمن التحول العام في مفاهيم التدريس والتربية.
هناك قطاعات لن تعود إلى سابق عهدها ولفترة غير محددة مثل قطاع النقل الجوي والسياحة والترفيه وسيكون تضررها مؤلما والاقتصاد عموما سيهبط ولن يكون واقعيا التفكير في استرجاع نسب نمو عالية ولذلك يجب التكيف مع مستوى معيشة أدنى وهو ما يعني اقتصادا أصغر. سوف يتقلص الاستيراد عموما بسبب الوضع العالمي وتخلي الناس عن الطموحات الاستهلاكية السابقة. السلع الغذائية ستبقى متوفرة بأسعار معقولة وسوف يزدهر الإنتاج المحلي للاستهلاك المحلي. وسوف يعلو شأن العمل والإنتاج المنزلي. ويمكن إعطاء معنى مختلف للرفاهية.
القصد هو التعامل مع نوع آخر من الرفاهية التي تصنعها بنفسك، وتقليل الحاجة إلى اقتناء الأشياء الجديدة واللهاث الاستهلاكي واستبدال الكم بالكيف فأنت لا تنتبه أن متطلبات الرفاهية اليوم هي مصممة للربح الرأسمالي، يجب أن يكون هناك شره وحاجة ضارية للحصول على الأشياء المتغيرة كل يوم ليحقق أصحاب الأعمال الثراء وهذا المفهوم للنمو القائم على التوسع بلا نهاية لرواج الأعمال وتوسع الثراء لم يعد صالحا للمرحلة القادمة ويطلق بعض الاقتصاديين التقدميين على هذه العملية الانتقال من اقتصاد السوق إلى اقتصاد المجتمع. فكر مثلا في منزل قديم من البلوك أو الطين لكن حيطانه ملونة، وحوش مليء بالزهور والنباتات، وأثاث بسيط وعملي مريح مقابل بيت حجري بتشطيبات ديلوكس وأثاث من ماركات عالمية وصالون فاخر قلما تطؤه قدم. أين يمكن أن تشعر أكثر بالهناء والجمال والحياة؟ هذا مع العلم أنك ستحظى في كلتا الحالتين بخدمة الإنترنت والهاتف الذكي والاتصال والمعلومات والمعارف والترفيه بنفس الكلفة.