سافر الملك الى باريس بشكل مفاجئ، والزيارة ليست مقررة منذ زمن بعيد، وهي على ما يبدو ليست زيارة عادية، قد تتشابه مع زيارات يتم ترتيبها منذ وقت طويل.
لماذا يذهب الملك في هذا التوقيت الى باريس، خصوصا، ان حركة السفر ولقاءات رؤساء الدول شبه متوقفة، وتكتفي الدول على الاغلب بالاتصالات الهاتفية، او لقاءات الزوم، أو بوسائل بديلة، غير اللقاءات المباشرة، وهذا يؤشر الى ان التحرك لم يكن في سياقات التوقعات المعتادة التي قد تحللها من صياغات الخبر الرسمي في هذه الحالة وحسب، بل كان التحرك مستجدا حيث تقررت زيارة الملك الى باريس منذ أسبوعين تقريبا، وفقا للمعلومات.
الفترة الحالية في علاقات الأردن الدولية، فترة يتوجب تحليلها بطريقة مختلفة، اذ ان الولايات المتحدة مثلا مشغولة بانتخابات الرئاسة الأميركية، وواشنطن برغم تدخلها في قضايا الشرق الأوسط، الا انها تمر بفترة تعيد فيها جدولة أولوياتها، وتركز في المنطقة على امرين فقط: استرضاء إسرائيل، والحرب على ايران، كما ان البريطانيين كحلفاء تقليديين للأردن يمرون بمرحلة انكفاء داخلي لاعتبارات كثيرة، وقد يختلف كثيرون حول هذه النقطة بالذات، الا ان اغلب دول العالم تعود اليوم الى الوراء وتعيد ترتيب أولوياتها بسبب الصراعات، والمعارك الاقتصادية، وكلفة وباء كورونا، فوق ما في بريطانيا من تأثيرات أولية لقصة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وما يتوقع على خريطة التأثير في كل المنطقة، هذا فوق الدور الألماني في المنطقة، الذي لا يعد دورا أساسيا، ولا يبدو ان المانيا تطمح كثيرا الى لعب دور في خريطة الشرق الأوسط، بغير الحضور غير المكلف.
ربما أيضا العلاقة الأردنية مع الروس، جيدة تاريخيا، لكن هناك تبريد لهذه العلاقة هذه الفترة، حيث لم تشهد تفعيلا كما يجب منذ فترة طويلة، برغم ان هذه العلاقة خدمت الأردن كثيرا في الملف السوري، وملفات كثيرة، لكنها ليست بذات بريقها القديم. الفرنسيون هنا ليسوا بدلاء عن هذه القوى العالمية، لكن التحليلات تشير الى ان فرنسا بدأت تعيد التموضع في مكانتها الدولية في شرق المتوسط، سواء عبر زيارة الرئيس الفرنسي الى لبنان مرتين، بما يعنيه ذلك على صعيد المنطقة، والملف السوري، وحتى ملف العلاقات مع ايران في المحصلة، وأيضا زيارة ماكرون الى بغداد، بما تعنيه على مستويات مختلفة، وما يتخذه الفرنسيون من مواقف في البحر الأبيض المتوسط، وملف الدور التركي، وكل التعقيدات في المنطقة، والواضح تماما، ان فرنسا ربما تحاول ان ترث أدوارا كثيرة في المنطقة، خصوصا، في هذه الفترة من التحولات التي لا يعرف احد اين ستقود كل المنطقة؟
الزيارة السريعة التي لم تدم الا أربع ساعات، من بينها ساعتان مدة لقاء الملك وماكرون، سافر فيها الملك والتقى الرئيس الفرنسي وعاد في ذات الليلة، زيارة مرهقة بسبب سرعتها، لكنها في الوقت ذاته تؤشر الى خشية اردنية من ناحية ثانية بشأن التحولات في القوى الدولية ومساحات الفراغ التي قد تستجد، خصوصا، مع التوقعات بشأن أوروبا والولايات المتحدة، والتحركات في الإقليم، والملفين التركي والإيراني، والملف الأهم المرتبط بالقضية الفلسطينية، واذا كانت فرنسا في هذا التوقيت، قد تسعى لوراثة الزعامة الأوروبية بدلا من البريطانيين او الالمان، وهذا مجرد احتمال، فان الزيارة تأتي مفسرة في بعض جوانبها، لكنها أيضا تكشف عن حسابات اردنية قد لا تقف عند حدود زيارة باريس في هذا التوقيت، وقد يتضح كل الخط البياني، خلال الفترة المقبلة، تحت مظلة السؤال حول هوية حلفاء الأردن، العرب والاقليميين والدوليين، ومن هم، والى اين تسير كل المنطقة؟
من مصلحة الأردن الأولى والأخيرة، عدم الاستسلام امام المعادلات الإقليمية والدولية التي تتشكل الان بسرعة وببطء على مستويات مختلفة، ولا بد من قراءة اعمق لكل المشهد، تعيد أيضا تموضع الأردن، حتى لا نصحو وقد بتنا على رصيف العلاقات الدولية، وبالغنا في ثقتنا بأنفسنا، بكوننا مقبولين عالميا، وهذا يعني ان زيارة باريس وتحديدا بعد تحركات ماكرون الأخيرة، تختلف تماما في الدلالة عن أي زيارة اعتيادية في ظروف ثانية، وقد تكون مؤشرا الى سياسة خارجية مختلفة، امام حسابات الربح والخسارة.