لم تستقر هوية الحكومات في الدول العربية على اختلاف أنظمتها، وتباين ديمقراطيتها. ولم يحسم الجدل بعد بين خيارين متاحين ومجربين؛ حكومات تكنوقراط وحكومات سياسيين وأحزاب.
في لبنان الذي حكم لعقود طويلة بحكومات سياسية تمثل القوى الحزبية الرئيسة في الساحة، انتفضت الجماهير على النمط السائد للحكومات السياسية، ومطلبها الرئيسي اليوم حكومة اختصاصيين او تكنوقراط. الرئيس اللبناني ميشل عون الممثل لواحد من أبرز التيارات الحزبية في البلاد، حاول مجاراة الغاضبين باقتراح نموذج هجين للحكومة يمزج بين الشكلين أطلق عليه اسم “تكنوسياسي”.
العراق يواجه إشكالية مماثلة، فمطلب المتظاهرين يتلخص بحكومة مستقلين، بعد أن عانوا من فساد وفشل حكومات الائتلاف الحزبي، وتجبر القيادات السياسية التي زادت ثراء على حساب الأغلبية الساحقة والفقيرة.
أما في تونس، النموذج الديمقراطي الأبرز عربيا، فقد اضطر حزب النهضة الفائز بأكبر حصة من مقاعد البرلمان لترشيح شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، لضمان دعم الحلفاء في تشكيلها. والحلفاء هنا مثل النهضة؛ أحزاب سياسية نالت حصة في البرلمان أقل من النهضة.
مرد هذا الاتجاه في تونس ذاكرة التونسيين المخيبة مع الحكومات الحزبية التي توالت على السلطة بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، ولم يشهد التونسيون في عهدها أي تحسن بمستوى معيشتهم.
تبقى المملكة المغربية النموذج الصارخ للحكومات الحزبية في العقود الاخيرة، لكن هذه التجربة على أهميتها لم تقدم دليلا قاطعا على أفضلية هذا النموذج على حكومات التكنوقراط، فحصيلة التجربة المغربية في مجالات التنمية الاقتصادية ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية لاتختلف إطلاقا عن مثيلاتها العربية باختلاف حكوماتها.
بهذا المعنى يصعب على المرء التمترس خلف أحد النموذجين دون معاينة السلبيات والايجابيات لكل منهما، فالتجارب العربية الحية لا تسعف أبدا أصحاب المواقف الحادة.
الأردن لم يكن بعيدا عن سجال الحكومات هذا، وإن اتخذ عناوين مختلفة بعض الشيء. النخبة السياسية والحزبية في بلادنا تتبنى مفهوم الحكومة البرلمانية، بل أكثر من ذلك غدا هذا المفهوم شعارا سياسيا من شعارات الدولة في إطار برنامجها للاصلاح السياسي. باستثناء تجربة يتيمة وقصيرة في خمسينيات القرن الماضي لم يشهد الأردن حكومة برلمانية بالمعنى الفعلي. ولتلك التجربة ظروفها ومعطياتها التي لا يمكن القياس عليها في زمننا الحالي. ما تبقى من تجارب شهدت مشاركة نواب في حكومات كانت في واقع الأمر مشوهة ولا ترتقي لمفهوم الحكومة البرلمانية، كالتي تشكلت في تسعينيات القرن الماضي، وضمت نوابا يمثلون كتلا برلمانية إلى جانب شخصيات مستقلة.
الحكومات الحديثة في الأردن هي في الغالب خليط من تكنوقراط القطاع الخاص، وبيروقراطيين جاؤوا من رحم مؤسسات الدولة، وفق نظام مرن للمحاصصات الجهوية والمناطقية.
أما المعيار السائد أردنيا لتحديد ما إذا كانت الحكومة سياسية أم لا فهو شخصية رئيسها. رئيس الحكومة في الأردن هو الذي يمنحها الهوية بصرف النظر عن تشكيلتها، ويرتبط مفهوم الهوية حصرا بمقدار الولاية العامة التي يحوز عليها رئيس الوزراء وسيرته في العمل العام.
والحكومة البرلمانية المنشودة أردنيا تعني للكثيرين حكومة حزبية وذلك على غرار حكومات الدول المتقدمة أو التي تشهد تحولا ديمقراطيا.
بالنظر إلى تجارب الدول العربية مع الحكومات الحزبية والردة الجارفة نحو حكومات التكنوقراط والمستقلين وأصحاب الاختصاص، يتعين علينا في الأردن أن نفكر مليا في النماذج المقترحة ونراجع مواقفنا حيال الخيارات الأفضل، ونتعلم من خبرات الآخرين وتجاربهم المريرة.
باختصار علينا أن نطرح للنقاش، وبدون مواقف مسبقة السؤال التالي: ما هو شكل الحكومة المناسبة للأردن؟