الجمعة، 15-05-2020
03:40 م
ليس، دائما، سؤالا محايدا أو فضوليا، تتعرض له كل يوم مرات عدة سواء كنت في بلدك (الأردن بخاصة، وربما في بلدان أخرى كثيرة) أو كنت مسافرا أو مغتربا، ولكنه في كثير من الأحيان، وربما أغلبها، يحدد موقف السائل منك، بل وفرصك فيما تسعى أو تتطلع لتحقيقه، في كثير من الأحيان تدفع ثمن الإجابة غاليا، تحرم من فرص العمل والتأشيرة والقبول والاحترام والمعاملة بعدل ومساواة، وفي أحيان أخرى يكون المؤهل الأساسي للعمل والترقي والمرور والاحترام والتعالي.
وهناك سؤال آخر تلقائي عندما تجيب بأنك أردني، .. أردني أردني؟ ولا أردني فلسطيني؟ حتى سائق التاكسي الباكستاني في دول الخليج يسألك هذا السؤال، لقد اعتدنا أن نجيب ببساطة في الخارج بأننا من بلدنا الذي نحمل جنسيته، وفي بلدك تحتاج أن تفصح عن مدينتك أو عشيرتك أو كلتيهما، ولكنه سؤال يبدو أكثر تعقيدا مما يبدو، وتحتاج إجابته إلى تفكير طويل.
صحيح! من أين أنا؟ السؤال هنا أصبح تاريخيا وفلسفيا، وعلميا أيضا، وجدت أخيرا أني لا أعرف، إن شعوري الحقيقي بالمكان ينتمي إلى قريتي التي ولدت ونشأت فيها، ولكنها اليوم مهجورة تماما، كنت في مرحلة من الزمن مصابا بمرض الحنين إلى الوطن، وكنت أذهب بانتظام إلى أطلال القرية التي تحولت بيوتها إلى خرائب متداعية، وأمضي في صمت عميق، ولكن مشاعر الحنين نفسها تحولت إلى سلوك ومشاعر أكثر تعقيدا، كأن العالم وطني، ولكنه وطني الذي أريده ولا يريدني، وكأن الناس جميعا إخوتي وعشيرتي، ولكنها عشيرة ترفضني، ليس من حقك أن تختار من وما تكون، وأنت ابتداء لا تعرف من تكون ومن أين جئت ولا إلى أين تمضي، كأنك قصة الكون نفسه تجمع من الغبار والسديم يمضي وراء السراب على نحو فوضوي.
ولا يسعفنا في السؤال سوى الجهل، ثم وجدت أني بحاجة لموالفة نفسي مع الجهل، فهو دليل أكثر صحة وجمالا من دليل المعرفة، فما نعرفه لا يساوي شيئا بالنسبة لما نعرفه، فلماذا لا نلجأ إلى ما لا نعرفه، ذلك المحيط الواسع بلا نهايات ولا حدود، بدلا مما نعرفه، ذلك الشيء الضحل الضئيل، كأن العلم يقودنا إلى الجهل، كأن التقدم يقودنا إلى الخرافة، كأننا نرتقي بإدراكنا أننا لا نعرف، الأمر ليس كذلك، ولكن الفكرة عندما تحل في الكلمات تبدو هكذا لنراها أو ندركها، ثم نمضي في حروب أهلية تسعرها إجابة جاهلة لسؤال لا معنى له من أين أنت؟ أليس هذا السؤال هو سبب النزاعات والحروب والانشقاقات، والتشكلات أيضا والجماعات والأفكار والتيارات.
أردني، عربي، آرامي، نبطي، كنعاني، سامي، رومي، آسيوي، شرق متوسطي، هل تصفك واحدة من هذه الكلمات أو سواها عندما تجيب بها، من منا تصفه كلمة واحدة؟ ولكن هذه الكلمة في بلادنا اليوم تشكل أسرار المعارك والتقدم والفشل، طيب ماذا فعلت بنا الأيام والبلاد التي عشنا وتعلمنا فيها، ألم تمنحنا شيئا يستحق أو نستحق أن ننتسب إليه؟ ألا تمنحنا التجارب والعلوم والأعمال صفة ننتسب إليها، إنك ترى اليوم كثيرا من الشباب العاملين في القنوات الفضائية ينتسبون إليها كما لو أنها عشيرة أو أيديولوجيا، هل سنسمع في يوم ما عن عشيرة بنك سبيرا؟ أليس هناك اليوم لدينا نادي شركة ما تبيع الهواء المتشكل في موجات؟ كيف يتشكل جمهور المشجعين لهذا النادي؟ ومن هم منافسوه؟ هل هم مشجعو نادي الشركة التي تبيع الموجات المتشكلة من غير أسلاك؟ ولماذا نزعج أنفسنا بالسؤال ونحن مقسومون بين برشلونة وريال مدريد مثل أو أكثر مما نحن منقسمون عشائر وجهات وطوائف، من أين هم، مشجعو برشلونة والذين ولدوا ونشأوا في يابيش جلعاد؟ مكان في الأردن كان مدينة عامرة ثم صارت قرية صغيرة اكتسبت اسما آخر (كركما)، ثم تحولت إلى أطلال مهجورة.