سنة الجائحة الأسوأ منذ قرن تكاد تنقضي، لتبدأ سنة جديدة يمكن أن نسميها بامتياز سنة اللقاحات. ولطالما ارتبطت اللقاحات في أذهاننا بمرحلة الطفولة، لكننا في العام الجديد سنغدو كلنا أطفالا، لا بل إن الصغار تحديدا مستثنون من لقاحات فيروس كورونا، والتزاحم سيكون بين الكبار.
بالمناسبة سنة الجائحة هي الأخرى أعادتنا إلى زمن الطفولة. كل واحد فينا شعر أنه طفل صغير. نتعلم المشي على أقدامنا ونتسوق لأول مرة دون ركوب السيارات، ونحمل حقيبة على ظهورنا كحقيبة المدرسة. نتعلم ونعلم في منازلنا، وكم احتاج الكثيرون لتحفيز ذاكرتهم لإتقان مهارات أولية تقادمت مع مر السنين وتقدم الأعمار. وصرنا نهذي بالامتحانات المدرسية والواجبات المنزلية، ونفرض صمتا مطبقا على البيت وقت الحصص المدرسية، ونخشى تنبيهات المعلم، منازل الأردنيين عموما أصبحت مدارس. نعود لبيوتنا باكرا قبل أن يحل موعد الحظر، ونستمع برهبة الأطفال لصوت صفارة الإنذار وهي تحذرنا من الخروج متبوعة بعبارات النهي لرجل أمن عاش معنا لأسابيع طويلة.
كنا أطفالا بحق، وعلينا أن نتعلم تدابير الصحة والنظافة، كيف نغسل أيدينا، وكيف نرتدي الكمامة كما لو أننا أطفال في أول يوم مدرسي، ليس في ذلك مبالغة كما تعلمون، فقد خصصت وسائل الاعلام أوقاتا طويلة لشرح كيفية غسل اليدين بطريقة صحية، وارتداء الكمامة بالأسلوب الأمثل، وخرج وزير الصحة ذات يوم ليشرح الخطوات بتمثيلية بسيطة على شاشات التلفزيون.
كان علينا أيضا أن نتعلم كيف نقف على الدور كما طابور الصباح المدرسي. صف مستقيم ومسافات تباعد موحدة لا تقل عن مترين، لم يبق سوى حضور مدير المدرسة بيننا لزجر المخالفين وضبط التمتمات قبل نشيد العلم. التحذيرات التي نعطيها للصغار التزمنا جميعا بها، فلا نختلط مع أناس لا نعرفهم ونتجنب التجمعات، وعدم المشاركة في المناسبات، لا نزور بعضنا إلا في الحالات الطارئة. الكبار صاروا مثل الصغار، نتحسس جبهاتنا لقياس الحرارة، وعندما يسعل أحدنا لا نكتفي بهجره، بل نستعجل بالدواء المسكن، وننتظر بفارغ الصبر نتيجة الفحص.
أصبحنا صغارا، فلا نذهب للعمل في الصباح كما كان الحال في السابق، عطلة مديدة لا نهاية لها، ونقضي وقتنا مثلهم في تصفح الهواتف والألعاب الإلكترونية، ومتابعة أجزاء لا تنتهي من المسلسلات، حتى الإيجاز اليومي لسعد جابر وأمجد العضايلة كان في الوقت المخصص لمشاهدة التلفزيون بالنسبة للأطفال. نتحلق قريبا من الشاشة حتى نكاد ندخل فيها، وتلك عادة أردنية ورثناها جيلا بعد جيل، فعندما يشدنا حدث تلفزيوني نقترب من الشاشة كثيرا في تعبير عن اهتمامنا بذلك الحدث. ربما يكون لدى الأخصائيين الاجتماعيين تفسير أكثر دقة وعمقا من فهمي الشخصي لهذه العادة.
وعندما سمح لنا أول مرة بقيادة السيارات بعد انقطاع طويل، بدا وكأننا أطفال نجلس للمرة الأولى خلف المقود، نتمتع في تحريكه، ونكاد نطلق الزوامير ابتهاجا بالتجربة. وحين خرجنا بالسيارة أول مرة بدت شوارعنا وكأنها حلبة سباق في مدينة ألعاب. في تجربتنا مع الحجر والحظر اكتشفنا أننا نتصرف مثل الصغار كلما كنا أقرب لبعضنا، نغضب لأتفه سبب، ونصرخ على بعضنا بصوت عال. ومثل الأطفال تماما “نتشهون” في الأكل، وقد خضنا تجارب مريرة مع الطبخ والخبز في المنزل، وفرحنا مثل الأطفال عندما نجحنا أول مرة في إعداد البيتزا في المنزل.
أشهر طويلة عشنا فيها أطفالا، نمتثل للتعليمات دون نقاش، ونخاف من الفيروس في الليل ولا نفتح الباب دون مبرر. لم يبق من سلوك الأطفال ما نفعله سوى أن نزحف على بطوننا، ثم نحبو ونتعلم المشي من جديد. لعلنا نتعلم السير على أقدامنا في العام الجديد. المهم لا تصرخوا مثل الأطفال عند تلقي اللقاح.